الرجولة الحقيقية:
حدثتني احداهن وهي فتاة ملتزمة تقول:
كنت فتاة حسناء لافتة الجمال، لذا كان الخطاب يتقدمون لبيتنا مذ بلغت مبلغ النساء، ولا أخفيك أنني كنت أود التوقف عن الدراسة، والقرار في البيت، وتأسيس أسرة.
لكن بعد قصصي مع الخطاب، كرهت الزواج، وكرهت الرجال، وخاب أملي في الملتزمين.
كان أقصى طموحاتي رجل ملتزم، يعرف حدود الله، ويحتكم لشرعه، لكنني وجدت مظاهر التدين ولم أجد الدين، فلم أجد أحدا يفهم لب الدين وجماله وفلسفته، كل ما وجدته هو مظاهر وقشور، وكان أن رفضتهم الواحد تلو الآخر، فلم يملأ علي واحد منهم قلبي وعقلي وروحي.
وكنت بيني وبين نفسي أضع شروطا للخاطب، لا يمكنني التنازل عنها، ألا وهي الكفاءة في الفكر والعلم والثقافة(فلم أكن لأقبل بشخص لم يكمل تعليمه)، السكن المستقل، وإتمام دراستي الجامعية حتى الحصول على الشهادة، أما فيما يخص مواصفات الشريك، فلم أكن متطلبة، ولم أكن أميل للشكل أو المظهر الخارجي، فالرجل عندي لا يعيبه شيء سوى الدين والخلق.
غير أن الشيء الوحيد الذي كنت أنفر منه، هو البدانة الظاهرة في الرجل، والكرش المتدلي، والصلع.
كنت سأقبل بالقصير، والذميم، والنحيف وغيرهم...غير أني كنت لا أحب الرجل السمين، ولا أتخيلني زوجة لهكذا شخص.
في أحد الأيام انتقل إلى مدينتنا شاب يعمل في صناعة الحلويات، وأصبح أخي شريكا معه في المحل، وأخي الآخر عاملا به، ٱضافة لعمال آخرين.
كان الشاب غريبا عن المدينة، من أقصى الشرق، (جيجل) بالتحديد.
أخي قام بالتجارة وبأعمال حرة وكثيرة، ومختلفة، وقام بشراكة مع كثيرين، وكان ينتقد شركاءه كل مرة، لعدم الوفاء بالعهود، وكلام الرجال، وغيرها من المشاكل، لدرجة أصبح لديه خبرة بمعادن الرجال.
لكن هذه المرة وطيلة سنة كان كل مرة يكتشف مواقف تسره من صديقه، فقد كان طيبا، شهما، خلوقا، وحنونا، رغم أن مظهره لا يوحي بالالتزام.
كان يحنو على العمال ويتواضع لهم ويلاطفهم، ويمنحهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم، ولا يكلفهم فوق طاقتهم.
إضافة لتخصيصه يوم الجمعة مجانا للفقراء، أما الحلويات البائتة فكان يتصدق بها ولا يبيعها.
هذا إضافة إلى وفاءه بالعهود، وسماحة طبعه.
أما أخي الصغير، فكانت مهمته تقتضي بيع تلك الحلويات، لذا كان صندوق المال كله تحت تصرفه، وهو لما يبلغ بعد مبلغ الرجال فقد كان مراهقا في السادسة عشر من عمره.
وكان هو الآخر لا يكف عن الإعجاب بأخلاقه، وطريقته في التعامل، فكان يمنحه الثقة المطلقة، ويطلب منه أن يلجأ إليه عند الحاجة، أو حين يخطئ بدل الخوف الذي يؤدي للكذب وأشياء أخرى...وكان يشاركه البيع أحايين كثيرة فيرى أخلاق المروءة والرجولة في بيعه وتعاملاته، في صبره وحلمه، وجده وهزله، وراحته وتعبه.
وكذا اكتشف كيف تغدق يمناه، دون أن تعلم يسراه.
تقول الفتاة لي وهي تضع كلتا يديها على قلبها، وتسرح بعيدا، وكأنها تعرفه أول مرة:
لا أخفيك، فقد أمضيت عاما كاملا أخفي خفقات قلبي، وأنا أتسمع حديث اخوتي اليومي عنه، كلما ظهر موقف جديد يبرز نبل الرجل.
ثم حدث أن أسر لأخي أنه يريد الزواج وطلب منه أن يبحث له على عروس، وشرطه الوحيد أن لا تكون فتاة مادية.
وأخي الأحمق تركني في حسرتي أعاني، وأخذ على عاتقه مهمة البحث، والأنكى أنه طلب مني ترشيح فتاة تناسبه من الفتيات والصديقات اللاتي أعرفهن.
مرت فترة طويلة من البحث، ولم يجدوا طلبه، وكان الكثير من الشباب يعرضون أخواتهم عليه، غير أنه لم يجد مواصفات المرأة التي يريدها، بعد السؤال والتقصي عن تلكم البنات.
أمام كل ذلك، شعرت بالخوف أول مرة، شعرت بأنه بين لحظة وضحاها قد يصير لأخرى، فألمحت لأمي أني أرغب فيه بقوة، وأن كل شروطي السابقة أتنازل عنها كي أفوز بمثله.
أمي لم تملك نفسها هي الأخرى، فلطالما تمنت رؤية ابنتها بالفستان الأبيض...
تكلمت مع أخي في الموضوع، وطلبت منه تحديد موعد يتعارف فيه الطرفان.
تردد أخي وتململ وشعر بالإحراج، وصعب عليه أن يعرض أخته، بعدما تعود أن يأتيها الخطاب إلى بيتها هرولة في كل مرة، لكن والدتي قالت أن الآخرين ليسوا بأحسن منا، وأن الرجل يخطب لابنته أيضا، ومثله رجل لا يفرط به.
تم الموعد، تعارفت وإياه، قال أنه الأخ السابع لستة أشقاء، لكنه يود العيش مع والديه، والفوز بمرضاتهما.
تنازلت أنا عن السكن المستقل إذ علمت منه أنه سيوفر لي الطابق الأعلى والخصوصية اللازمة.
كان شابا ثلاثينيا سمينا ذا كرش متدلية، برأس تعلوه صلعة ، وهو إلى ذلك لم يكمل تعليمه، فقد توقف في عامه الثالث بالمتوسط، لكن كل ذلك لم يعد يهمني فقد أخذ بلبي وأحببت كل شيء فيه.
لدرجة جعلتني أتنازل عن أمور أخرى ما كنت لأتنازل عنها لأحد غيره، ألا وهي دراستي، لقد كنت في عامي الأخير، ومع ذلك قلت له أني سأتوقف إن طلب ذلك، فلست بحاجة لدراسة ولا شهادة بعد الظفر بشخص مثله، ملأ علي كياني كله، وأحسست بالأمان بوجوده.
لكنه رفض ذلك، قال أنه سيخطبني، ويترك لي فسحة لإتمام عامي الأخير، وأن المقادير بيد الله، ولا يمكنه أن يترك زوجته عالة تتكفف الناس لو حدث له مكروه.
وأن الشهادة سلاح بيد المرأة، إذا تقلب بها زورق الحياة.
وأمام موقفه الرجولي الشهم هذا، كبر بعيني أكثر، وأيقنت أنه نسيج وحده لا يقارن بغيره.
اليوم بعد عشر سنوات زواج، لو عاد بي الزمن إلى الوراء، فلن أختار غيره.
لكن تجربتي استثناء، ولن أقول للفتيات عبارة (اعطيهولي فاهم وماشي قاري)، ولن أقول لهن تنازلن عن كل شيء للرجل، لأنني إذ تنازلت، تنازلت بعد معرفتي له معرفة حقيقية دامت لسنتين، خبرت فيها سلوكه وأخلاقه وأحواله، ولم أغامر بالتنازل لشخص لم أعرفه بعد حق المعرفة.
وأن الشريك والسند الحقيقي هو ذاك الذي لا يجعلك بين خيارين أحلاهما مر، بل هو ذلك الشخص الذي يوجهك أحسن توجيه، ويحسسك بالأمان، ويتيح لك البدائل والخيارات التي تناسبكما معا.
وأقول أيضا أن المرأة مستعدة للتنازل عن أشياء كثيرة، إذا صادفت رجلا تام الرجولة، تحس معه بالأمان.
وأختم بهذه القصة ((قال رجل لعمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-: إنّ فلانًا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!.))
#شمس_الهمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق