أماكن سياحية أم شركية؟!
كان الفصل ربيعا، عندما قرر خالي أخذنا في نزهة لنستمتع بجمال الربيع، قال أنه سيأخذنا إلى مكان فسيح يضم كل أشكال ومباهج الربيع.
انطلقت السيارة في الصباح الباكر، أخذت مكاني المطل على النافذة، ولزمت شقيقة زوجة خالي الجانب الآخر،( فتاة في الرابعة عشر من العمر)، وتوسطنا طفلهما ذو الخمس سنوات.
كنت فرحة ومتحمسة جدا، وملأت السيارة صخبا، وغناء وضحكا لا ينقطع(ولم أكن أعلم ماذا كان ينتظرني جراء ذلك الضحك، اعتدت توقع الأسوء كلما أكثرت الضحك، أو أسرفت في الفرح، طبعا لا طيرة في الإسلام، ولكن اذا تطيرت فتحمل النتيجة وحدك).
أعتقد أنني غنيت كل أناشيد طيور الجنة منذ افتتاحها، رفقة ابن خالي ذلك اليوم.
صحيح أنني على أعتاب الشيخوخة، وأن فارق السن بيني وبينه، كان مثل مساحة القارة العجوز، لكنني كنت أتصابى رفقة الأطفال، حتى ليخيل إلى الناظر إلي اذا كنت معهم، أنهم راشدون ناضجون، وأنا الطفلة الوحيدة بينهم.
سارت السيارة مسافة طويلة، حرمني فيها ذلك الطفل الشقي التمتع بمناظر الربيع والخضرة من خلال النافذة.
كان يود أن يظل انتباهي وتركيزي الكامل معه، ومع الأغاني والنكات المختلفة.
وبينما أنا على تلك الحال، توقفت السيارة فجأة، إنه الوصول، لم أنتبه إلى الوقت بتاتا..
ترجلنا من السيارة، مكان خال فسيح، وأعلام ملونة على طول الطريق، توحي وكأنه سفارة، أو ساحة احتفالات،(يبدو أن الدولة تهتم بهذا المكان جيدا ، لاحظت نظافة لا توجد في أماكن أخرى أيضا)، أناس هنا وهناك، وسور عملاق، يضم فناء فسيحا، يتوسطه مسجد جميل(هكذا خمنت).
- خالو، علاش نزلتنا هنا؟! راه الصباح ، ياك الظهر مازال!!
خالي مغمضا عينيه، مطأطأ رأسه، ثم مالبث أن رفعه عاليا، وأخذ يضحك، وزوجته تدعمه بضحكات صفراء ماكرة.
- سيدي امحمد، جامي شفتيه باينة، أبيك ماجابكمش هنا، راني عارف هو مايأمنش بالولية -الأولياء الصالحين-.
- سيدكم امحمد، شاوالا، منك بصح خالو؟!
حمبوك قولي راني نزعق برك.
اغرورقت عيناي بالدموع، وأسقط في يدي، وتسمرت في مكاني غير مصدقة لما يحدث.(سيدهم امحمد ولي صالح، ببلدية سيدي امحمد بغليزان، أشهر قطب شركي في الغرب الجزائري).
أومأ خالي لزوجته، فتقدمت نحوي، وأخذتني بعيدا، وهمست الي بالآتي:
- راني عارفة ما تأمنيش بالولية، ما لقينا كي نديروا، مابغيناش نخلوك فالسكنى وحدك، أبيك مايبغيش، وأنت تخافي تقعدي وحدك.
ثم استطردت قائلة:
- احنا ماشي غادي نطلبوا الولي، هدا شرك راني عارفة، البارح شفت منام، وحد المرا قاتلي روحي شعلي الشموع فالوالي، وقيسي الزيارة، هدا مكان.
لبثت في مكاني كالبلهاء، كل تلك المواعظ والدروس، مع زوجة خالي لم تنفع، كانت تتظاهر أمامي بالورع والتوبة، وتطلب مني أن أحدثها دوما، وخالي-----، ما باله هو الآخر؟!
وأين تأثير دروس عبد الرحمن الهاشمي التي كنا نسمعها سوية؟!
لقد عهدته في فترة العزوبية يمقت هذه الأشياء، ويمقت النساء الجاهلات، والسحارات(على حد تعبيره).
خالي يعشق زوجته كثيرا، يا لتأثير النساء!!
أو ربما ليس الحب من جعله هكذا، إنه( السحور)، أكيد زوجة خالي قامت بالواجب، فلم أعهد خالي هكذا، كان مسلوب الإرادة تماما.
لا، لا ...أستغفر الله العظيم.
صحيح أن خالي كان ذا مبادئ، لكنه لم يكن يطبق...كان يكتفي بالتمني فقط.
(زوجة صالحة، مصلحة، ومتدينة) بينما لم يكن هو ذلك الشاب الصالح أو المصلح يوما !!
كان كمن يهجر الصلاة، طيلة حياته، ويتمنى الموت ساجدا !!
أفقت من سرحاني، وعدت إلى السيارة، وأغلقت علي الباب.
- خالي: ماذا تفعلين؟!
- سأنتظركم هنا، لن أنزل، أو أشارك في الإثم.
- آحوجي، وكون يسمع أبيك بلي خليتك فاللوطو وحدك، راكي عارفة شاغادي يصرا؟!
وزيد احنا غادي ندخلوا نشوفوا وصاي، ماغادي نطلبوه ماوالو، وزيد ماهوش الموسم نتاعو.
استسلمت لكلامه، لقد أمسكني من اليد التي توجعني، يعرف صرامة والدي وغضبه، ويعرف أيضا خوفي منه.
ترجلت من السيارة، مهزومة، منكسة الرأس، وغصة مريرة في حلقي.
- ماذا أفعل هنا، ما الذي أتى بي إلى هذا المكان الموبوء؟!
قبالة المسجد شيخ كبير، واقف على رزقه، وأي رزق، في مكان كهذا، مال الحرام؟!
كان يبيع رقائق البطاطس، والذرة، وعلب العصير الصغيرة، بالإضافة إلى الحلويات واللبان، تأملت خلسة عينيه، بدا طيبا، أشفقت عليه مما هو فيه، وما ينتظرنا يوم الوعيد.
تقدم ابن خالي لابتياع ما يلزمه، كنت أنظر إليه، منتشيا، يأكل ويريد أن يلقمني، فأرفض، وأتمنى لو أضع إصبعي في حلقه ليتقيأ الحرام.
ما ذنبه ليأكل السحت، و ينمو من الحرام؟!
لا أستطيع فعل شيء، مكبلة ، ومنقادة كالخراف.
لقد اعتدت الانقياد، والحماية من والدي واخوتي، لدرجة لا أعرف فيها روح المبادرة أو القيادة.
كنت مسجونة بين أربع جدران، فإذا حدث وخرجت من معتقلي ذاك، لا أحسن التصرف، ولا الكلام، ولا الدفاع عن نفسي، ولا تحضرني البديهة لإنقاذ نفسي، لطالما كان والدي واخوتي الشباب، من يقومون بحمايتي، والتفكير بدلا عني.
كانوا يحرصون على أن لا أخرج ماشية على قدمي إلا فيما ندر، لم يحدث أن خرجت بمفردي لشيء ما، ولم أركب مواصلات عامة أيضا، كانوا يصطحبونني في السيارة فقط، واذا ما اشتقت الى المشي، فلأنسى الأمر، واذا حدث، وهو نادر الحدوث، كان أحدهم يتولى رفقتي، مثلما يفعل معتز مع أخواته في باب الحارة.
عندما كنت أتأمل غيرتهم الشديدة تلك، كان يخيل إلي أنني أميرة مفقودة -منذ الطفولة- ومن نسل نبيل، وعائلتي تقوم بحمايتي إلى حين تهدأ الأمور في المملكة، ويسقط الأعداء، لأظهر أنا فجأة وأقوم باستلام العرش!!
بالتأكيد لست "أنستازيا رومانوف"، لكن الممالك كثيرة، ربما أهلي الحقيقيون يبحثون عني الآن في احدى الممالك.
***********
أمرنا خالي أن نتبعه إلى داخل الفناء، فمشينا معه، فناء رحب شاسع وبلاط اسمنتي نظيف.
ترك خالي زوجته تقودنا، وذهب هو إلى وجهة غير معلومة.
كنت كالبلهاء تماما، أتبع فقط، وكأنني جارية مستضعفة تقاد إلى سوق نخاسة.
شردت قليلا أفكر في ردة فعل والدي حال عرف بالأمر، وكيف سيكون احساسه وشعوره، كان ليتبرأ مني، أعرف الأمر.
لقد أفنى سني حياته كلها يلقننا العقيدة الصحيحة، لم يركز والدي على شيء مثلما ركز على التوحيد، ومحاربة عبادة القبور والتوسل بهم.
لقد كان باديسيا إلى النخاع، كانت كل معاركه الكلامية والفيسبوكية تدور رحاها حول عباد القبور.
وا خيبتك بي أبتاه!!
بلعت ريقي بصعوبة، وحاولت التماسك والتجلد، وعدم التفكير بالأمر، لكن المرأة الساخطة مستيقظة بداخلي، و تأبى أن تدعني بمفردي، إنها تظهر أمامي كالشبح مجددا.
هذه المرة تذكرت ردة فعل اخوتي، أختي التي تكبرني بسنتين فقط، ستهزأ بي حتما، لطالما فعلت، ستقول كعادتها أنني ضعيفة وجبانة، وسهلة الانقياد كالخراف.
ولن تكتفي بهذا ستقول أنها لا يمكن أن تتعرض لموقف مشابه، لأنها ببساطة قوية، وقريبة إلى الله، لطالما كفت البنات عن الغيبة عند رؤيتها، حتى أنها قالت لي بأن صديقاتها يخفنها ويخجلن منها أكثر من أمهاتهم، حتى أنهم لا يجرؤون على اتيان أمر محرم أو حتى مكروه أمامها، قالت بأن حلولها عليهم يذكرهم بالإيمان، وحضورها يردع شياطينهم ويخيفها، لطالما كانت قوية الشخصية، بينما أنا لم أكن يوما كذلك، خلقت ضعيفة وجبانة وداء الخجل يلازمني أينما حللت، كنت أحب جميع الناس، وأشفق عليهم، لم أكره العصاة يوما، كنت أكره الأفعال الشائنة فقط، لدي عاطفة أمومة جياشة، أشعر وكأن جميع الناس أبنائي، فهل تملك الأم سوى أن تشفق وترحم؟!
أهز رأسي، لا لن أخبرها بالأمر، مستحيل.
أحاول تجاهل أمرها، فأتذكر هذه المرة أخي الذي يصغرني بسنتين، سيقوم هو الآخر بلومي وتقريعي، وربما غمسني في نار جهنم وأعادني، مواعظه قوية وشديدة، وهو إلى ذلك غير متسامح، لن ينساها لي أبدا، ولن يسمح لي بزيارة خالي مجددا.
للأمانة ، يومها فكرت بكل أفراد الأسرة، بينما جعلت الله جل في علاه أهون الناظرين إلي، لم أحسب حسابا لله، لم أتضرع إليه، ولم أحس بالخوف منه، الله يعلم ما بقلبي، ويعلم ضعفي وارتباكي وقلة حيلتي(هكذا خمنت)، فما أتعسني وما أشقاني!!
لقد نجح مجتمعنا، وآباؤنا في جعلنا نخافهم أكثر من خوف الله.
لا يمكن لامرأة تربت على الخوف، أن تقدم شيئا للأمة.
لا تنتظر خيرا من امرأة تخافك، ولا تخاف ربها وضميرها.
نفضت تلك الأفكار عن رأسي، تقدمنا قليلا، فوجدنا رجلا ذميما مظلم الوجه، نظر إلينا كما لو كنا قاتلي أباه، وطلب منا أن ننزع أحذيتنا ونتمشى في المكان حفاة!! فهيبة المكان وقدسيته تتطلب ذلك...قلت في نفسي(ليتهم يفعلون ذلك مع بيوت الله!!)
نظراته وصوته كانا كفيلين بجعلنا ننفذ الأمر بآلية مدهشة كما لو أنه قام بضغط زر فوق رؤوسنا.
اقتربنا من الغرفة التي فيها الضريح، فوجدنا قرابة الخمسة عشر رجلا جالسين القرفصاء على طول البناء ومحيطين بجانب الباب الوحيد، ونظراتهم الخبيثة المقرفة، مصوبة كالسهام إلى كل مرتادات الضريح.
في الداخل كان هنالك قاعة مزينة بالسيراميك الملون، حتى أعلاها، مع قبة كبيرة تتلألأ جمالا.
وبجانب الباب كانت هنالك لوحة بشجرة نسب الولي، قرأتها كاملة فاستغربت وأنا أقرأ لقب موسوي، لأنني كنت أسمع هذا اللقب كثيرا لدى الشيعة، وقبل أن أكمل القراءة، قلت لنفسي: سبحان الله، حتى الولي الذي يعبدونه ويقدسونه ربما شيعي؟!
لأكتشف بعد إنهائي القراءة أن نسله ينتهي إلى النسب الشريف، هذا إن كان ما كتب صحيحا.
طلبت مني زوجة خالي الولوج معها إلى الداخل فرفضت، دخلت هي تتلوى كالأفعى، وبقيت أنا أتعوذ بالله وأستغفر وأحوقل.
ثم تفطنت إلى وجود كوة تطل على غرفة الضريح، اقتربت منها فرأيت الضريح مغطى بأقمشة كثيرة يتوسط تلك الغرفة، وحوله تطوف النسوة سبعة أشواط!!
نسوة، أحسست وأنا أنظر اليهن بالقرف، وكل معاني الإزدراء.
وجوه سوداء، مظلمة، عابسة، مكفهرة ومجعدة.
أمعنت النظر وكلي حيرة واستهجان:
- طواف!!
- يا إلهي ثبت علينا العقل والدين!!
- ماذا جرى لتلك العقول، حتى تنحرف هكذا؟!
أحسست بالغثيان، فتركت شقيقة زوجة خالي وابنها، وأخبرتها أن لا يقلقوا علي، وأنني سأنتظرهم خارجا.
جف حلقي، وتيبست شفاهي، وأحسست بقشعريرة تعم جميع بدني.
كتمت العطش، فلن أشرب الماء من هذا المكان الآسن.
أتمت زوجة خالي نذورها، وجاءتني تبرر أفعالها، وتحكي آلامها وأحلامها، قلت:
- سقط القناع، لن أثق بك بعد اليوم.
ارتبكت قليلا، وانهالت علي تستسمحني وتقبلني، وتحاول أن تمزح معي ، وتضحكني، فقلت:
-استغفري الله، واطلبي منه أن يسامحك، أما أنا فانسي أمري.
خرجنا من المكان، فوجدنا خالي بانتظارنا، طلب أن يشتري لنا شيئا يؤكل فرفضت أن أطعم شيئا في هذا المكان.
استسلم خالي لرغبتي، وذهبنا نتمشى بالجوار.
هنالك ذهلت لرؤية منظر جميل، جبل مرتفع يتوسطه حجر ضخم في القمة، وكأنه شاهد قبر كبير غرس غرسا في قمة الجبل.
وفي ثنايا الجبل درجات من صنع البشر، تشق طريقا ضيقا للصعود، والناس اليها ما بين صاعد ونازل.
كنت فتاة مرحة بطاقة عالية، كما أنني لم أكف عن ممارسة الرياضة إلى يومنا هذا، كنت محرومة من المشي في الهواء الطلق، فاستأذنت خالي الصعود إلى قمة الجبل.
حاولت إقناعه وزوجته بالأمر، وأنه سيكون بمثابة الرياضة لهما وحرق بعض من السعرات الحرارية لكنهما رفضا.
كانا يعانيان زيادة في الوزن، وحتى تلك الطفلة شقيقة زوجة خالي كانت فوق الميزان الطبيعي لأقرانها ، ورفضت هي الأخرى مرافقتي.
لم أجد سوى ذلك الطفل الصغير لأتخذه محرما خلال رحلتي تلك، مخافة من الشبان.
لقد كان بدينا هو الآخر...لكنه تحمس لرفقتي.
لقد كان المكان يعج بثنائيات الشباب مع صديقاتهم البنات، فأي ولي صالح وأي ثواب ذلك الذي كانوا يدعونه؟!
فقط خلوات، ومجون، واختلاط!!
صعدت بخطوات متحمسة نحو القمة، أحسست وكأنني سأبلغ قمة "افريست"، وكان كل أملي نظرة من عل إلى الأسفل، أحس فيها بالانتصار ، وأذوق فيها طعم النجاح لأول مرة في حياتي..
كان الصعود يستغرق عشرين دقيقة إلى نصف ساعة، كما أن الممر الوحيد كان زلقا، وخطيرا بسبب قطرات الندى، والعشب المبتل.
ابن خالي الصغير أصبح ملتهب الوجه مثل بندورة حمراء، كان مظهره باعثا على الضحك.
وصلت إلى القمة ، فداعب وجنتي الهواء النقي العليل، وصدمني وجود غرفة شبيهة بقباب الأولياء، نظرت نحوها ففوجئت بامرأة مسنة تقبع داخلها، وكان مظهرها يوحي بأنها تسكن هناك ربما.
استغربت كيف تمكنت من صعود كل تلك المسافة الطويلة، مع سنها ذاك...واذ بها تفاجئني بقولها:
- ادخلي ارمي الزيارة، باش تدي البركة.
- لاااا...ليس مجددا، هربت من الشرك، لأصعد إليه بكل قوتي.
أعوذ بالله من غضب الله، أعوذ به أن أشرك به شيئا.(أقول في نفسي).
لم أدعها تكمل كلماتها تلك، وحملت الصغير المنهك بين ذراعي، ونزلت تلك الدرجات لا ألوي على شيء.
لم أتمكن حتى من إلقاء نظرة من فوق.
لم أسترد أنفاسي حتى.
لم أتمتع برؤية الجمال الطبيعي.
تبااا لكم ولما تعبدون من دون الله.
حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن أحيا التوسل والبدع والشركيات، بعدما كدنا نتخلص منها.
حسبنا الله ونعم الوكيل في كل من حرمنا الأماكن السياحية الجميلة مثل أعالي يما غورايا وغيرها، ليتخذ منها مكانا لعبادة القبور.
نتوسل إليك يارب، ونعوذ بك من أن نشرك بك شيئا.
اللهم اهد آباءنا، وأمهاتنا وأحبابنا.
اللهم اهد شباب وبنات المسلمين.
#شمس_الهمة