السبت، 1 يناير 2022

عن عشق الكرة

 أتذكر تلك الأيام جيدا، حين كان عمري(15 سنة)، وبعد إلحاح كبير من جدتي لوالدي، سمح لي أخيرا بمرافقتها إلى مدينة أخرى غير مدينتي..

إلى مدينة غليزان حيث كان أخوالي الشباب متغربين للعمل هناك.

قررت جدتي الذهاب لخدمتهم فهي تعرف أن الشباب لا يحسنون الاعتناء بأنفسهم كثيرا..وقلب الأم لا يمكن أن يهنأ، وهي تعرف أن أبناءها مشتاقون لحساء ساخن بدل النواشف كل يوم..

وهي إلى ذلك كانت تستوحش هناك بمفردها، فتصطحب كل مرة فتاة من العائلة تؤنسها وتساعدها في جلي الصحون.

كان ذلك أول تغرب لي بعيدا عن أسرتي الصغيرة، كنت حتى ذلك الحين أعيش في قوقعة تم تعقيمها جيدا، ولم أكن أريد لأي شيء في العالم أن يسحبني من قوقعتي تلك، أو يتجرأ فيقتحمها.

وصلت لبيت أخوالي صباحا، كانوا يستعدون للذهاب إلى أعمالهم، وحين ذهبوا تفقدت الغرف فإذا بالفوضى تعم المكان، كان المطبخ مليئا عن آخره بكراتين عملاقة لأدوات كهربائية وكهرومنزلية..

حوض المطبخ مكدس بأطباق متسخة، علل الخال الأصغر بأنهم ينظفون يوميا، وأن الأوسط هو المسؤول عن هذه الفوضى، كونه لا يغسل الأواني حين يأتي دوره...وكنت أضحك في سري من مشاكساتهم تلك..

وكانت إحدى الغرف ممتلئة في وسطها بالملابس حتى السطح، كبحر ألقى بأحشائه إلى الشاطئ، لدرجة قلت فيها لجدتي أين سننام اليوم، كل الغرف شاغرة، فضحكت جدتي ملء شدقيها من كلماتي تلك...وقالت لا تخافي سننظف هذه الفوضى..

قال خالي أن البيت صار نظيفا، رحبا، عبقا بروائح العطور والزهور، وكذا أشهى الطبخات.. قال أنه استحال ربيعا، بعد أن نثر مجيئنا الورود في غرفه وباحاته..

هي ذي الأنثى، يملأ حضورها المكان إشراقا، والبيت سكينة وبهجة..ودفئا..وتنتشر لمسات الرقة والأنوثة فتزيد المكان سحرا..

كاتوا فرحين جدا بمقدمي بينهم، وكانوا يتناوبون على تدليلي تارة، ومشاكستي تارة أخرى..

لكن وبعد مرور ثلاثة أيام تكورت على نفسي وأخذت في البكاء، لأني اشتقت إلى أسرتي، فلم أكن قد فارقت منزلنا قبل ذلك اليوم..

لكن جدتي وبختني بشدة، واعتبرت تصرفي ذاك تصرف أطفال صغار..فكتمت بذلك دموعي، وصرخت في سري (ماما متى تأتي لتنقذيني من هذا المكان؟!).

بعدها تغير الحال، فقد أنساني الأنس بأخوالي أبي وأمي وكل عائلتي، فلم أعد أسأل عنهم أو أهاتفهم حتى..

لقد أبهجني أخوالي الشباب، وأخذوا بلبي وقلبي..

كان بينهم حب عجيب، ومشاكسات لا تنتهي، وأخوة حميمة يندر وجود مثلها بين الناس.

كانوا يتوقون للعودة من العمل بفارغ الصبر، فقط كي يقضوا الوقت كاملا رفقتنا..

فيغمروننا بالحب والأحضان، يقبلون جدتي في جبينها، ينامون في حجرها، وأحيانا يأتي الواحد منهم من وراءها ويغمض عينيها، ويومئ لي أن أسألها عن اسمه، حتى يعرف إن كان أحب واحد إلى قلبها...

الخال الأكبر كان مولعا بكرة القدم، والاستيديوهات التحليلية، وكان يقتني جريدة الهداف يوميا، فيتكوم أطنان منها فوق الثلاجة..

الأوسط كان كسولا عن ممارسة مهام البيت، لكنه كوميدي بطريقة عجيبة، إضافة أنه كان يحب الطعام ومشتقاته، وحين يساعد جدتي بحمل الأطباق إلى طاولة الطعام، يقوم بأكل كل حصص اللحم في طريقه إلى غرفة الطعام...فيغضب أخوالي ويضحكون من فعله ذاك...ويقولون لجدتي أن لا تكلفه بتلك المهمة، فهو لا يؤتمن على الطعام..

وكان إلى ذلك شخصا كثير النسيان، كل يوم يعدني بإحضار كعكعة( آيس كريم)، من النوع الفاخر ودجاجتين لأنه علم بحبي الشديد لهما...وكنت أنا أنتظر بلهفة، وكان هو كل يوم يخلف وعده، وكانت جدتي تلومه على سلوكه ذاك، (حرام عليك واش راك دير للطفلة).

الخال الأصغر، كان يناديني شهريار، لأني كنت أقص عليهم قصصا من التراث عن أيام العرب و(الكرم، والجود، والوفاء والبطولة وووو)

وكنت أنا أغضب لذلك، وأصحح له كل يوم، الأميرة اسمها (شهرزاد، شهرزاد)، الملك الرجل هو من كان يسمى شهريار..

فيعجبه ذاك، ولا يمل من ترديد شهرياااار، وذلك لمشاكستي..

أما علاقتهم بكرة القدم فعجيبة، كانوا يتابعون المباريات العالمية، ويشجعون بحماسة وعنفوان..

يتحلق ثلاثتهم أمام التلفاز، ويتفاعلون مع المباريات، ويصرخون بكل قوة حين تكون هنالك أهداف..

لدرجة أنهم هتفوا ذات مرة حين سجل أحد الأهداف، حتى رجت الأرض تحت أقدامنا من صراخهم ذاك..ثم سمعنا صوت جرس الباب، وكانوا هم منغمسين تماما مع اللعبة، فطلبوا مني تفقد الطارق..

ارتديت خماري وهرولت مسرعة مع الدرج، وحين فتحت شباك الباب، وجدت رجلا ستينيا يقف بالباب فسألته ماذا يريد؟

فقال:( شكاين عندكم؟! زلزلة، ولا قارورة غاز ولا واش هاد الحية اللي سمعناها؟!)

فأجبته بخجل: ( لا لا عمو مكاين والو، هادوك اخوالي راهم يتفرجوا فالماتش وينفعلو حبتين😅)

فرد بابتسامة دافئة بعد أن عادت إليه الروح: ( آه، تسما هكا، أيا الحمد لله، ربي يفرح لي جان، بلغيلهم السلام).

هكذا ببساطة، ذهب فرحا لأن أحدا لم يصب بأذى، ذهب وابتسامة حنون ترتسم على محياه..

وعدت أنا حائرة من سلوكه ذاك...

كيف لم يغضب؟ كيف لم يمتعض، كيف لم يزمجر؟

كيف لم يلعن هؤلاء، أو يلعن كرة القدم، أو يصفهم بالتفاهة على الأقل؟

لقد اكتفى بابتسامة أبوية دافئة، متفهما لعنفوان هؤلاء الشباب..

أتخيل شخصا آخر ممن ينصبون نفسهم من حملة المدافعين عن الدين والقيم، ماذا كان سيفعل؟

تخيلت ما تم غرسه في أذهاننا طوال سنوات عن التفاهة، وجلد منفوخ، و عن شباب مضيع للأمة ووو

ثم قارنت ذلك مع حنو ذلك الشيخ وابتسامته الدافئة وحبه الخير وشفقته على شباب المسلمين...وصرت كما كرة التنس، يتقاذفني خاطران ويتعاركان بذهني، ثم فازت الابتسامة الحانية المشفقة على خطاب الوعظ المتعالي..


هوسهم بالكرة جعلهم يعاملونني مثل الدمية، اشترى لي أحدهم قميصا للفريق الذي يفضله، واشترى لي آخر بدلة كاملة...وحملني أحدهم وراءه في دراجته وطاف بي شوارع المدينة...

وكانوا إذا انتصر فريقهم المفضل، يحملونني كما يحمل اللاعبون مدربهم، ويطيرونني في الهواء، 

فأحس أنا بالحبور والحب.


 وكنت وقتها فتاة زاهدة يحسب الناظر إلي أن رابعة العدوية بعثت من جديد...

فتاة تدمن الكتب، وتحمل هموم العالم فوق رأسها، تمشي بوقار الشيوخ، وتسمح للدمع أن يترقرق بسخاء.

في بداية مقدمي كان الشعور بالاستعلاء يدب في أوصال نفسي الصغيرة، على ضعفاء النفوس هؤلاء، الذين يستسلمون لمشاهدة المباريات، ولا ينهون النفس عن الاستكثار من المباحات.

وكنا إذ نجتمع في السهرة أمام التلفاز، يطلبون مني أن أقص عليهم من تلك الحكايات التي قرأتها، أو سمعتها من الدعاة، وكنت أحدثهم عن عذاب القبر، وقصص حسن الخاتمة، وكذا سوء الخاتمة...

وكانوا ينصتون إلي باهتمام كبير دون سخرية، أو مقاطعة..


وحين أطلت المكث بينهم، صرت أقارن حياتنا الكئيبة الراكدة وروتينها الممل، والكبت الذي يجعلك تتكلم همسا، بحياة الفرح والسرور، والعفوية والبهجة التي كان يصنعها هؤلاء..

صرت أقارن إخوتي الذي زهدوا في مشاهدة مباريات كرة القدم في سن صغير جدا، فقتلوا طفولتهم وشبابهم، وأحرقوا زهرة أيامهم، لبسوا عباءة المشيخة مبكرا، يمشون بوقار الشيوخ، لم يأخذوا حظهم من التجربة والخطأ والحماسة...

كانت تلك التربية الدينية التقليدية لجيل كامل، تقتل الطاقة في الشباب، تجعلهم مجرد روبوتات تمشي بلغة الأوامر، يخطط لحياتها وأحلامها بالقلم والمسطرة.


«تماما كما تفعل مدارسنا، تقوم برحلة للمتفوقين، ينصحونهم بأن يظلوا صامتين مؤدبين طوال الرحلة، كي يشكرهم سائق الحافلة في نهاية الرحلة على هدوءهم...

شاركت في الكثير من تلكم الرحلات طيلة ست سنوات، وفي السنوات الست تلك لم نستمتع ولا بواحدة..»


كنت إذ أقضي اليوم بسعادة وسرور، أحس في نهاية اليوم بتأنيب الضمير، وأستغفر الله بإسراف، ثم أتسلل قبيل أذان الفجر إلى الطابق السفلي، أتوضأ وأبث حيرتي إلى الله، فقد تعودت أن أقول كل ما بقلبي لله وحده، أتحدث معه بكل شيء، وعن كل شيء، وأحس أنه يسمعني ويفهمني، ولا يسخر من أسئلتي وإن كانت سخيفة وغبية...


تساءلت عن دور الغربة الساذجة الذي كنا نتقمصه، عن الورع البارد...عن العيش على الهامش، وانعدام التأثير...عن جدوى وجودنا...وعن واجبنا الدعوي، وأثر بصمتنا على الناس..

هل نحن حقا أهل للتأثير؟

لماذا ينفر منا الناس؟

ولماذا لا نستطيع التأثير؟

وكيف كانت الجواري والإماء، والشباب والشيوخ، يتركون ديارهم وأوطانهم ويسحرون بأخلاق المسلمين، فيختارون هذا الدين، وينضمون تحت لواءه؟

لماذا اختفى كل ذلك؟

ولماذا لا يسحر بنا المقربون؟

لماذا تتعامل المنظومة التقليدية مع الشباب بقالب الطهرانية و الملائكية، الذي يصعب معه تقبل بشريتنا وطبيعة احتياجاتنا كبشر؟!

لماذا فتنت أنا وسحرت بهم، بينما نعجز كملتزمين عن فعل ذلك؟!


ثم اكتشفت بعدها أننا كنا نخدر ضمائرنا بهاحس الغربة، فيما لا يستحق.

وأن الذي قرر العيش على الهامش، فلا يسأل عن التأثير والتغيير.

ثم أدركت أخيرا أنهم استمالوني وسحروني، بسبب كمية الحب الصادق الذي يحملونه بين جوانحهم لي..وعرفت بعد ذلك أن من يحمل شعور الاستعلاء الخفي بقلبه لا يمكن له كسب الآخرين.


#شمس_الهمة








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العيد

 تلك اللحظات الحرجة قبيل يوم العيد، ذلك التعب، والضغط، تلك الأمور التي أنجزت نصفها والنصف الآخر ينتظر منك اتمامه حالا، ذلك التوتر، وتلك الأع...