السبت، 1 يناير 2022

حجر صغير

 

حجر صغير:

كان الوقت عقب صلاة الفجر، سارعت منال ووالدها الخطى حتى لا يتأخرا عن الحافلة المتجهة إلى وهران، نسمات الفجر المنعشة داعبت وجنتيها الدافئتين، وجعلتها تسرح في تأمل المنازل عبر الطريق، كان الظلام حالكا إلا من بعض أعمدة إنارة خافتة تمتد متباعدة عبر الطريق، أما المنازل فكانت مظلمة على ساكنيها، ككل مرة تسافر فيها منال وقت الفجر، كانت تقوم بعد المنازل الممتدة عبر الطريق، خمسون، ستون، سبعون منزلا، لا يوجد بها إضاءة مما يدلل أن أصحابها نيام، ومما يثبت توقعاتها صوت الشخير المدوي لأناس يغطون في نوم عميق.
شعرت بخيبة أمل كبيرة، وتنهدت بأسى:
- إلى متى يا الله! قالت والحسرة تملأ قلبها الصغير.
ثم لاحظت إضاءة خافتة من أحد المنازل، سارعت الخطى للاقتراب أكثر لإلقاء السلام على جدران ذلك المنزل، ثم خيبة أمل مجددا، إنها إضاءة مرآب، شخص ما يخرج سيارته، إنها قطعا لأب كادح يلهث خلف لقمة العيش بينما ينام أولاده وبناته عن صلاة الفجر.
صعدت عينيها نحو السماء، داعية الله أن يوقظ الأمة من سباتها، بعدها تغير شعورها من الإحساس بالخيبة والشفقة على الناس، ودب شعور خفي بالاستعلاء في قلبها الصغير، تعثرت بحجر صغير أدمى رجلها.
- انتبهي أكثر، يقول والدها محذرا
الظلام حالك، والطريق غير معبدة، تحسسي مكان خطواتك.
انتبهت فورا بعد الوجع الذي سببه الحجر الصغير برجلها، إنها إشارة لي من الله، كانت مرهفة جدا وتؤول كل مصيبة تحدث معها على أنها تنبيه من الله، جعلها ذاك تعيد التفكير مليا وتتأمل حياتها، وشعور التميز الذي أحست به قبل برهة، فعوقبت لأجله بحجر صغير، وتنهدت بأسى" علمني يا الله" فلم أفهم رسالتك إلي.

منال فتاة في السادسة عشر من العمر، متوسطة الطول، ممشوقة القوام، بعيون عسلية ذابلة، كانت تمتاز برهافة الحس، تبكي على أتفه الأسباب، كان منظر صرصور كفيلا بارعابها والتسبب باغماءة فورية لها..
عكسها تماما كانت أختها الكبرى زينب فتاة قوية، واثقة، ومتفوقة دراسيا أيضا، مما أهلها للدراسة بكلية الطب بوهران.
وصلا إلى محطة الحافلات، استقلا أول حافلة متوجهة إلى كلية الطب بوهران، لقد كانت الزيارة بطلب من زينب، لأن الكلية تقيم فعاليات دينية بمناسبة المولد النبوي الشريف، تتخللها محاضرات عديد المشايخ، ولعل ضيف الشرف كان الشيخ "بريكسي" أشهر مشايخ بالغرب الجزائري، ولم يكن والد منال وزينب ليفوت هذا الحدث، وارتأى أن يصطحب معه منال، ناهيك أنها كانت أول زيارة لها إلى الجامعة.وكان إلى ذلك يهدف للقاء المشايخ واستشارتهم في المشكلة العويصة التي يعانيها مع ابنه.
*********
كانت زينب مشغولة بالدراسة، و استغلت ساعة فراغ ، استقبلت فيها منال بالأحضان، عرفتها بالجامعة، ثم الإقامة، أخذتها إلى الغرفة لترتاح، ثم انطلقتا مجددا كل منهما نحو وجهة معينة، زينب نحو قاعة الدروس، لكنها قبل ذلك أوصلت شقيقتها منال لقاعة المحاضرات.

في جناح الفتيات، ابتدأت الفعاليات، وتناوب المشايخ على قاعة المحاضرات، بينما وصلت منال متأخرة إلى القاعة.
دلفت منال من الباب الخلفي بهدوء، فوجدت ثلاث مشايخ يتصدرون القاعة، والمدرجات تكاد تكون خاوية من البنات، اللواتي توزعن بشكل غير منتظم، وغير متراص، فالكراسي الفارغة بين كل مجموعة مكونة من بنتين أو ثلاثة كانت تشي بعدم الانسجام واللحمة التي يريدها الله بين عباده.
وفور جلوس منال، تكلم الشيخ عن وجوب رص الصف، وأعاد النظام للمدرجات، لدرجة أربكت منال، وأحست وكأن الشيخ يمتلك "الحاسة السابعة"، حاسة تخول له سماع ما تتحدث به النفوس في سرها.
مرت ساعات الصباح الأربع بين محاضرات التزكية والدعوة إلى الله، والوعظ والإرشاد.
ثم توقفت الفعاليات وقت الغداء، لتستأنف بعد صلاة الظهر من جديد.
***********
ابتدأت الفعاليات، محاضرات، دروس، لدكاترة ومشايخ وأستاذات يحضرون بالتناوب.
كان كل شيء عاديا، خاملا، والمدرج هادئا هدوء الأموات، وكأن الطالبات اتفقن اتفاقا غير معلن على أخذ قيلولة مريحة، حتى قدم داعية شاب في الأربعين من عمره، متوسط الطول، يرتدي السواد، وله بطن بارزة قليلا من وراء قميصه، يرتدي حذاء مدببا من الأمام، اعتنى بتلميعه جيدا.

جلس، وحيا الطالبات، ثم عرف نفسه على أنه طبيب، ويعمل في حقل الدعوة إلى الله،
كان مظهره يوحي بحدة العقل العلمي وحوافه القاطعة، لكن ما إن يبتدئ الكلام، حتى تحس برفيف فراشة يدف في المكان.وألق ملون يشع قريبا منك.
كان أسلوبه الدعوي متميزا، فقد كان يستعمل القصص كثيرا، وطريقته الهادئة في الكلام كانت تشد السامع إليه.
كان الشيخ يحكي القصص، ويطرح الأسئلة لإشراك الأخوات، وكثيرا ما طرح أسئلة تتعلق بصحابي أو صحابية، طالبا نبذة عنه، لكن أزيد من خمسمائة طالبة كن يجهلن تاريخ الأمة، وأعيان الصحابة بشكل مخجل ولافت شكل صدمة لدى منال، التي كانت ترفع يدها كل مرة للإجابة، لكن الشيخ كان يؤخرها لحين تأكده أن فتاة أخرى لن تجيب.
منال كان لديها رصيد تاريخي وشرعي ممتاز، وقد أبهرت جمهور الأخوات بإجاباتها الدقيقة المفصلة.

نحى الشيخ ورقة كانت أمامه جانبا...ازدرد كأسا من الماء..اقترب من الميكروفون..وشرع يتحدث بصوت هادئ:
«يقول أحد من السلف:
سهرت ليلة مع أبي وحولنا نِيام
فقلت: لم يقم من هؤلاء من يصلي ركعتين !
فقال :
يا بني لو نمتَ لكان خيرًا لك من وقوعك في الخلق.»

ويقول «ابن القيم»: إذا فتح الله عليك فى قيام الليل فلا تزدرى النائمين، وإذا فتح الله عليك فى باب الصيام فلا تزدرى المفطرين، وإذا فتح الله عليك فى باب الجهاد فلا تزدرى القاعدين، فرُب قائم ومفطر وقاعد أقرب إلى الله منك، وأن تبيت نائماً وتصبح نادماً، خير لك من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل.

فركت منال عينيها الناعستين، عدلت جلستها، وحملقت في الشيخ بانتباه..والدهشة تعلو محياها، وعرفت على الفور رسالة الله لها من وراء ذلك الحجر الصغير الذي أدمى رجلها..

انتقل الشيخ بالحديث إلى الواقع الدعوي، وحكى قصصا من الواقع عايش تفاصيلها.
تسمرت الأجساد، خشع الأثير، تجمدت ذرات الفضاء، وطفق الترقب ينسج خيوطه على رؤوس الحاضرات..
تنهد المحاضر، ازدرد شربة ماء من قارورة أمامه، ثم توجه ببصره نحو جمهور الأخوات، وأخذ يسرد تفاصيل حكاية حقيقة حدثت معه فقال:
‏كان لي زميل يدعى عبد القادر، كنت أحقر صلاتي مع صلاته، وصومي مقارنة بصيامه،كان شابا وسيما، ذكيا، متفوقا، ومجتهدا في العبادة من صلاة وقيام وتلاوة قرآن.
‏كان ملتزما جدا، ومتشددا على نفسه والناس، وكثيرا ما لامني على استسهالي لبعض الأمور الشرعية.
مرت أيام الجامعة بحلوها ومرها، تخرجنا ومضى كل منا في دروب الحياة، بعضهم أكمل التخصص، بعضهم آثر العمل، كثيرون تزوجوا، وأصبح لدى كثير منهم أطفال.
إلا عبد القادر مكث سبع سنوات بطالا، يبحث عن الوظيفة، ولا يجدها، كلما طرق بابا أغلق في وجهه، لم يكن يجد حتى ثمن مشاوير التاكسي، أو ثمن فنجان قهوة يخوله الاستراحة باحدى المقاهي بعد عناء البحث عن وظيفة.
مر بأيام عصيبة جعلته يعتقد أن لا رابط يربطه بالمستقبل، لا رابط أمل ولا ولد.
كنت وإياه وبعض الأصدقاء على تواصل دائم، ثم بدأ يسحب نفسه عن مجموعتنا تدريجيا، وأصبح وحيدا كئيبا منعزلا عن الناس.

ثم وفي أحد الأيام نزل علينا خبر كالصاعقة، لم نتوقعه أبدا، ولم نحسب له حسابا من قبل، عبد القادر ألحد، كفر بوجود الله.

اجتمعت والشلة، وتباحثنا الأمر، وتكهنا الأسباب، وقررنا مساعدته وانتشاله مما هو فيه، لكنه كان يرفض صحبتنا، ويصرخ في وجوهنا، وانفجر بغضب كما تنفجر القنبلة، وألقى علينا بكلام كفري، لا أدري يومها هل ألقى كلاما فيه معنى، أو دلوا فيه ماء؟

كان يرفض كل اتصالاتنا ومحاولاتنا، ويقول لكل من تسول له نفسه محادثته (لا أريد الحديث عن الله، إذا كنت تريد لقائي لهذا السبب انس الأمر)

لذلك هجره الأصدقاء واستمروا بعيش حياتهم بعيدا عنه، لقد أدوا واجب النصيحة لكنه أبى الاستماع.

لكني لم أتركه، طلبت مقابلته ذات يوم في مقهى شعبي، وحين قدم ذهلت لحاله.
‏لقد سقط بجانبي على الكرسي كما يسقط كيس من العظام على الأرض، ثم أدرك حيرتي فقال:
- ‏لعلك ظننتني خارجا من المستشفى، أو مبعوثا من القبر، ‏إنما هو جسم يذوب في نار من الهم لا تخبو، وروح تزهق في حشرجة من الكرب لا تنقطع..

وحكى لي يومها معاناته في البحث عن وظيفة، كيف أن اصدقاءه توظفوا وتزوجوا، حكى عن وفاة والدته التي لم يجدوا المال الكافي لعلاجها، والتي خلفت وفاتها ندوبا في الروح لن تشفى..وألما وإحساسا بالعجز...كره معه الحياة كلها..

استمرت مجالسنا، وكنت فيها المستمع فقط، لم أكن ارغب بالكلام، ولا النصيحة، أردت مواساته، وفهم معاناته كي أتمكن بعدها من مساعدته..

وفعلا، تم الأمر بنجاح، وعاد صديقي أخيرا إلى رحاب الإيمان، وحسن إسلامه، وأناب لخالقه بتوبة صادقة فقبله الله، وحاشاه حاشاه أن يرد عبدا عاد إليه..

ثم توجه الداعية الشاب بسؤاله إلى البنات...
- قد تسألونني ما السر  الذي جعله يعود؟! ماهي الوصفة التي اتبعتها؟!
من يمكنها التكهن؟

صاحت الفتيات:” السر في فنجان القهوة، فنجان القهوة“
استغرب الداعية إجاباتهن، واستغربت منال أيضا في سرها، وطلب الشيخ إيضاحا، فقلن له أنه وضع شيئا بالقهوة!!
- سحر مثلا!!
أجاب الشيخ باستغراب..وتفطن أن الفتيات لم يفهمن القصة ربما...
سخرت منال من سذاجة البنات في سرها، ثم رفعت يدها تستأذن لسؤال الشيخ..فأذن لها الشيخ بالكلام.
سألته منال قائلة:
- هل يمكن أن تدلنا على المدخل الذي دخلت منه لشخص صديقك، فأثرت به وأعدته باذن الله إلى الطريق؟!
أجابها الشيخ:
- لا يمكنني ذلك، فالطبيب معروف، وهذا التفصيل الصغير لو ذكرته، سيعرفه الناس منه...
أضافت منال سؤالا آخر:
- طيب شيخنا، فهمنا أنك اتبعت أسلوب اللين والشفقة معه رغبة في الإصلاح، ‏لكن شيخنا جلوسك اليومي معه في المقهى، يترتب عليه أن يدفع ثمن قهوتك أحيانا، فهل كنت تشربها؟!
‏فنحن إذ نسمع مواعظ الشيوخ، علمنا ان الملحد لا يجوز تزويجه، ولا إلقاء السلام عليه، لا نبيعه ولا نشتري منه، ولا نأكل من كسب يديه..
هب أن الملحد أخوك، أو أبوك، كيف تتعامل معه؟
وهل تأكل من كسب يديه؟
لذلك غالبا لا يستعمل الناس أسلوب الإصلاح، ويرون أن الهجر هو الحل الأمثل..
قالت ذلك السؤال وعقلها كان مشغولا بأخيها الذي ألحد مؤخرا، وكيف كانوا يتعاملون معه طيلة ثلاث سنوات بأسلوب الهجر فزاده ذلك قسوة وابتعادا وكرها للإسلام وأهله..

أنصت الشيخ باهتمام لسؤال منال، وأثنى عليها واعتبره سؤالا ذكيا بالغ الأهمية..
وراح يشرح لمنال والحاضرات أن أسلوب الهجر لا يستعمل كبداية، وأنه يلزم اتباع أسلوب الإصلاح في البداية، والصبر على الناس، وفهمهم..
ثم أضاف قائلا:
“- أرى أن السبب وراء الإلحاد في العالم الإسلامي، هي مشاكل نفسية، تؤدي الى زعزعة ثقة هذا الذي ألحد بالله، ثم بعد أن يلحد، يلجأ إلى تدعيم الضلال الذي يعيش فيه بالعلم والأدلة العلمية..
- أرى وبكل وضوح أن الإلحاد أزمة نفسية يمر بها الملحد، ومعالجة هذه المشكلة لا يتأتى إلا بعلاج أزمته النفسية، فإذا أردت الحديث مع ملحد لا تندفع لمحاولة إقناعه بوجود الله سبحانه وتعالى بالحجة والأدلة، والأفضل أن تسأله عن حاله ونفسيته ومشاكله، وتفتح له قلبك حتى تضع يدك على "الأزمة النفسية التي أدت الى ذلك"، ثم تعالجها ، وقتها سيبكي ويعود الى ربه...
- الإيمان بوجود الله فطرة إنسانية طبيعية، لا يفقدها إلا من تعرض إلى ظروف غير طبيعية.

بعد المحاضرة، عاد والد منال إلى مدينته محزونا، قلقا، وطعم الخيبة عالق بحلقه، ذلك أنه لم يتسن له لقاء الشيخ« بريكسي» والحديث معه لأنه غادر مبكرا لظرف ما..
في الحافلة لم تكف منال عن الثرثرة بحماس، وكانت مثل آلة تسجيل تعيد سرد تفاصيل اليوم بدقة لا متناهية...عن قصة الحجر الصغير..وعن قصة الطبيب..
وحين أنهت كلامها، وجدت الدموع تترقرق من عيون والدها..
لقد حصل على مبتغاه من الرحلة هو الآخر...

#شمس_الهمة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العيد

 تلك اللحظات الحرجة قبيل يوم العيد، ذلك التعب، والضغط، تلك الأمور التي أنجزت نصفها والنصف الآخر ينتظر منك اتمامه حالا، ذلك التوتر، وتلك الأع...