الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

مشواري في القراءة

 

للحذف:(مشواري في القراءة)

سألتني صديقتي عن الكتب التي قرأت في طفولتي، الكتب التي قامت بتشكيلي، والتي كان لها فارق في حياتي.
لله ما أصعب هذا الأمر، وهل يذكر المرء كل الكتب والحوداث والأشخاص الذين مروا في حياته وتركوا أثرا لا ينسى.
أما في طفولتي فقد نشأت على الكتب الدينية والأدبية، لم يكن والدي يسمح لنا بالاقتراب منها، لكننا كنا أربعة أطفال أشقياء يغرينا مظهر المجلدات الضخمة الموشاة باللون الذهبي.
كان يشتري لنا قصص الأنبياء، وقصصا ترفيهية أخرى تناسب أعمارنا، ومجلات التلوين وغيرها.
وكنا نفعل بها الأعاجيب، فنقرأها مرارا وتكرارا حتى تبلى وتصبح في أسوأ حال.
ولأننا كنا متقاربين في السن كبرنا على الغيرة والتنافس في كل شيء.
أما إخوتي الذكور، فكانوا يتسللون لغرفة المكتبة، ويسرقون مجلدا أو اثنين يتأملون حجمه وتجليده، يشمون أوراقه الصفراء، ويطالعون بعضا مما كتب.
كان والدي شديد التنظيم، وكثيرا ما اكتشف عبثهم بالمكتبة، رغم أنهم كانوا يحرصون على إرجاع الكتب قبل مجيئه، فجوة صغيرة بحجم سنتمتر واحد بين الكتب كانت كفيلة باكتشاف عبثهم بالكتب.
ولأن كل ممنوع مرغوب، لم نكن نرعوي عن ذلك الفعل.
صرت وأختي نفعل ذات الفعل أيضا، قرأنا في سن مبكرة جدا الكثير من الكتب الأدبية، كتب الشعر، والنحو والإعراب.
أذكر أنني قرأت فقه السنة للسيد سابق في الابتدائي، وكذا كتب الترغيب والترهيب التي توقفت عن قراءتها حين قرأت حديث الرياء، وكيف أن أول من تسعر بهم النار هم العلماء، لم يستوعب عقلي الصغير ذلك، أصبت بصدمة كبيرة وحيرة شديدة، وقررت عدم الاقتراب منها مدة طويلة.
قرأت كتب الإحياء لأبي حامد الغزالي عدة مرات حتى كدت أحفظه، لكن المرة الأولى وحين قرأت باب رياضة النفوس، أذكر أنني وجدت قصة لأحد العلماء كان الناس يقومون بتزكيته ومدحه، فعمد إلى دكان فسرق منه حتى يعتقد الناس أنه غير صالح، ويبقى ما يفعله بينه وبين ربه، فقلت في نفسي وقتها(ما هذا التخريف؟!) لن أعود لمثل هذا الكتاب.
ولأنني كنت مقلدة لإخوتي بداعي الغيرة والتنافس فقد كنت أعكف على كتب البداية والنهاية فأقرأ منها حتى يأخذني الوقت، وأستعذب المقروء.
‏النقاشات التي كان والدي ينشطها في البيت كان لها الأثر البالغ في ترسيخ المعلومات، حيث كان يحب جو الأسئلة والأجوبة وقصص الصالحين، وأسئلته التي لم يتخل عنها إلى يومنا هذا كانت جملته الشهيرة(من القائل، وما المناسبة؟!)، وجملة (أعرب ماتحته خط)، (وبم يذكرك هذا التاريخ) وووو
‏كان لأخوي الكبيرين ذاكرة فولاذية، وكانا يجيبان على أسئلته فيمتدحهما، وكنت أنا أبحث لي عن مكان بينهم، وأرغب في لفت انتباهه كي يمدحني، لكني كنت أسوأهم بسبب ذاكرتي المهترئة، وغالبا ما كنت مثار ضحك واستهزاء الجميع.
‏لكن الأمر كان مختلفا مع أقراني، كنت تلك الطفلة التي تعشق اللعب، ولم يكن يظهر علي أي اختلاف إذا ماكنت بينهم.
‏لكن في المدرسة والقسم اكتشف معلمي ذلك، معلمي الذي لم يكن له إلمام بسير الصحابة والصالحين، ولا علاقة له بالشعر ولا يجيد النحو ويرتكب الأخطاء الإملائية.
‏وكانت الطفلة تتفوق على المعلم، وتصحح له الأخطاء..وكان يغتبط لذلك ويسعد.
‏وكثيرا ما بخسني حقي في الفرض أو الامتحان، فألجأ للشكوى إلى أبي فلا ينصفني، ويوجهني إلى المكتبة، لأبحث بنفسي، فقد كان ولازال يكره الاتكالية في التعليم، ويكره تقديم المعلومة جاهزة.
‏أندس بين كتب الإملاء والإعراب، وأبحث وأنبش مثل فأر، وأعود لمعلمي بالدليل القاطع، فيتأمل المعلم كل ذلك، ويعيد إلي نقطتي كاملة.
أما حين كنا نفرغ من الدروس يقول لي حدثينا أو قصي علينا شيئا نقتل به الوقت...وكنت أسأله أيريد أن يسمع شعرا أم أدبا، تاريخا، أو جغرافيا، تراجم أو سير..
‏وأحدثهم وأقص عليهم فقد كانت المعلومات تنحفر في ذاكرتي وأنا طفلة.
‏لم يكن هذا فحسب إنما كان يقوم بدعوة المعلمين، ويضعني أمام السبورة مثل دمية، ويسألني أن أقص عليه سيرة نبي أو صحابي أو معركة من المعارك، أو أن أتلو عليهم أبياتا من الشعر.
وكانت الأنثى بداخلي تخجل، وأتوسله أن أفعل ذلك ووجهي إلى السبورة، وآخذ في السرد والقص، مشبكة بين يدي، ومنكسة لرأسي، وأقوم بالتمايل والاهتزاز تماما كما تفعل الدمى، ولا أكتشف ذلك ٱلا متأخرة حين تروي لي زميلاتي ضحك المعلمين من حركتي تلك.
وسبب خجلي الكبير ذاك غيرة والدي ‏الشديدة، فكان يصحبني معه مرات عديدة، وإذا قام أصدقاؤه الأساتذة بمصافحتي أو تقبيلي، يسرها في نفسه، وحين نعود إلى البيت يلومني لأني سمحت لهم بالاقتراب مني.

بعدها أدمنت التلفزيون، وبرامج الفضائيات، ولأني كنت مقربة جدا من والدي كنا نشاهد ذات البرامج الدينية والسياسة، ذلك أن والدي كان يسمح بعشرين قناة فقط، غالبها قنوات دينية، وإخبارية.
يذهب إخوتي للعب بينما أتابع أنا برامج الجزيرة، وقنوات المجد وإقرأ وغيرهما.
يقضي والدي يومه في التدريس بمدينة بعيدة، ولا يعود إلا مع اقتراب المغرب، ويترك على عاتقي مسؤولية تلخيص برامج قناة الجزيرة (الاتجاه المعاكس)، برامج الجزيرة الوثائقية، نشرات الأخبار وغيرها.وكان لدينا ميل لنفس الأشخاص، فكنا نحب حضورهم ونتشوق لاستضافتهم.
قناة الجزيرة فتحت عيني على الكثير من الأمور. بعد الكتب.
في برامج قناة الجزيرة، كنا نتابع برامج المناظرات بين العلمانيين والإسلاميين..
والدي كان ينتمي لجيل عاطفي بامتياز، يتحمس مع الإسلاميين والملتزمين، ويهجو بني علمان والفرنكوفونيين.
وكنت الطفلة بجانبه، وكان يظن أن هذا آمن لعقلها من نفايات الفضائيات..
لكني إذ كنت أشاهد تلكم البرامج، وأشاهد وجهتي نظر متضاربتين، في زمن أوجد الغزو الثقافي فيه عقليات مشتتة، تتصارع كالديوك...يرغي فيها أصحابها ويزبدون...ولا يتفقون.
وإن يكن من حسنة واحدة أفدتها من برامج المناظرات تلك، فقد كانت اكتسابي للعقل الناقد، ورؤيتي للوسط الذي غفل عنه المتحدثان.
كنت أحيانا أتأثر بالعلمانيين، بقوة حججهم،  وأشكالهم الرشيقة مقارنة ببدانة ظاهرة من خصوهم الإسلاميين.
وأعجب كذلك بهدوءهم ورزانتهم، في مقابل غضب يبديه أصحاب اللحى دوما في معاركهم.
ولولا معية الله وحفظه، لصرت في خبر كان...الله كان معي دوما...وحين كنت أتسائل بيني وبين نفسي
عن شيء ما، يرسل الله إلي البيان فورا.
فحين كنت أعجب برشاقة العلمانيين، وتأخذني وساوس الشيطان انظري هؤلاء أفضل من الإسلاميين
والدليل اهتمامهم بصحتهم وأجسادهم، أما هؤلاء فلا يفعلون شيئا سوى كثرة الكلام.
أفرط في الاستغفار، أغير القناة هربا من أفكاري، أشغل قناة الكرتون، تلح علي الوساوس مرة أخرى.
أهرع لقناة المجد للقرآن الكريم، فتقابلني الآية{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ}(4)
أحمد الله كثيرا، أبتهل بكلمات الثناء والشكر، أنقذني ربي. حتى المنافقون زمن الرسول كانت أجسامهم فتنة للمؤمنين. وكذا أقوالهم.

يعود الشيطان ليتسلل من مدخل آخر...  أتسائل مرة أخرى بيني وبين نفسي، لماذا يعطي الملتزم نظرة شائهة عن نفسه، ويسمح بتدلي كرشه، هل هؤلاء حقا يكثرون الصيام، ويمتنعون عن أطايب الطعام؟!
يرهقني التفكير...أقلب القنوات أملا في أنشودة تسري عني، يتوقف الريموت على قناة الشارقة، أود تغيير القناة فأفشل...البطاريات فرغت.....أتأفف....أفتح الريموت...أنزع البطاريات وقبل أن أقوم بعضها، أفاجأ بضيف القناة يقول بيت الشعر(لا تحش بطنك بالطعام تسمنا....فجسوم أهل العلم غير سمان) ويشرح فيها أن المسلمين انحرفوا عن لب الدين.
أفرح أنا وأنتشي، كل هواجسي ووساوسي أجاب عنها الله بإشارات لي من السماء، أسجد ركعتين، وأخاطب الله شكرا بقلبي المليء بالحب والامتنان لمن تحيط رعايته بي دوما ويحميني.

مع ذلك أقول علمنا والدي حياة الكتب، وتعلم أقراننا الحياة، فشلنا نحن في العيش ونجح هؤلاء.
فكيف لمن تربى منعزلا في مغرس كريم، أن يخوض غمار الحياة بكل مافيها.
وحين عقلت وخالطت الناس وجاريتهم فشلت في الحياة، وفشلت في التأقلم.
ورأيتني منهم كتفاحة ملقاة في البصل.

#شمس_الهمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العيد

 تلك اللحظات الحرجة قبيل يوم العيد، ذلك التعب، والضغط، تلك الأمور التي أنجزت نصفها والنصف الآخر ينتظر منك اتمامه حالا، ذلك التوتر، وتلك الأع...