الكتوم(قصة قصيرة)
كانت في طريقها إلى المنزل عائدة من الجامعة، فلمحت أخاها المراهق ئو الثلاثة عشر عاما مع فتى ضخم الجثة وأكبر منه سنا، فهو يبدو في السادسة عشر من العمر...فانقبض صدرها وتوجست من الأمر..ليس هذا فحسب، فقد كان ذلك الفتى يرتدي المقطع من الثياب، والذي صار موضة هذه الأيام، ويرفع شعره كعرف الديك بتسريحة غريبة، كما يفعل فتيان السوء..
هرولت (حليمة) بخطى متسارعة، توازي دقات قلبها لتلوذ بالمنزل الآمن.
أسرعت إلى غرفتها
، فوجدت شقيقتها الوسطى(نور) في الغرفة، فغَلَّقت بابها جيدا، ثم التفتت إلى شقيقتها بكلام يشبه الهمس، مخافة أن ينتقل الكلام خارج حيطان الغرفة فتسمعه والدتهما..
- ما الأمر؟! ما الذي جرى لك حتى اختفى لون شفتيك، هل هنالك خطب ما؟!قالت (نور مستفهمة)
- شششش..ردت حليمة محذرة أختها من رفع صوتها بالكلام..
رأيت منظرا لا يسر، شقيقنا المراهق (بلال)، وجدته يجالس احد الشباب الأكبر منه سنا، وقد كانت أوصافه كيت وكيت، لم أرتح للأمر...تعرفين أن بلال كتوم جدا، ولا نعلم مع من يقضي وقته خارج المنزل...هو مجتهد في دراسته، والأول على صفه، يلزم دروس حفظ القرآن، ويحافظ على الصلوات في المسجد، لكن هذا لا يكفي...نحن لا نعلم أصدقاءه، ولا من يخالط، وهذا السن حساس جدا، أنا خائفة عليه..
- بلال كتوم جدا نعم، لكنني أعرفه جيدا وأعرف أخلاقه..ردت نور مطمئنة شقيقتها حليمة..
لكن حليمة لم تقتنع، كانت من النوع الذي يعتبر الشك وسوء الظن من الحزم، الجميع بنظرها متهم حتى تثبت إدانته، تعتقد ان الخصوصية مساحة ترتكب فيها الأخطاء والخطايا، تكره المسافات، وتعتقد أن من هم أصغر منها ضعفاء طيبون، وفريسة سهلة لرفقاء السوء..
تعتقد أن الكل يخطئ ويقع في المزالق، ماعداها...كانت تشك بالجميع وتتهم الجميع، لكنها لا تقبل ذلك على نفسها..فهي قوية الشخصية، ثابتة الإيمان، جاهزة فقط للأحكام الجاهزة...
عكسها تماما كانت شقيقتها نور، هشة وضعيفة، وكثيرة الأخطاء، تعتقد أن كل الناس أفضل منها، وتنظر لكل شخص بعين الإعجاب، وتتمنى لو كانت مثل هذا في صلابته، وذاك في إيمانه، وذاك في كفه عن النميمة ...وهلم جرا..
- سأقوم بمواجهته، لن أطيق الانتظار لأعرف..يجب ان نستنطقه ليتكلم، ونكثف مراقبته، ونفتش أشياءه، حاسوبه، ملابسه وجيوبه...فأبناء هذا الجيل لا يؤتمن جانبهم.. قالت حليمة.
- تقصدين أنك تريدين التحقيق معه، هذا خطأ، أرجوك لا تفعلي، لم تسيئين الظن؟ نحن نعرف تربيتنا، ونثق بابننا، ولا شك لديه تبرير مقنع، أمهليني بعض الوقت لأتمكن من سؤاله بطريقة غير مباشرة.
-حسنا، لك ذلك، وإن كنت أعتقد أنه بدون جدوى، وستكلل مساعيك بالفشل..ذلك أن بلال شخص كتوم، لا يعرف المرء ما يدور برأسه الصغير ذاك...
قالت نور كلامها ذاك ولبثت أياما تحاول الاقتراب من بلال، وسحب الكلام منه، لكن بدون جدوى..كان قلبها مطمئنا، لكنها كانت تحتاج شيئا يؤكد شعورها ذاك..
ثم اهتدت لفكرة اللعب معه، كان عاشقا لألعاب الحاسوب، وكان والده يسمح له بساعة في اليوم فقط..لذلك عمدت نور إلى مناداته، وقالت أنها تريد تعلم لعبة المزرعة السعيدة، وكذا اللعبة التي يعشقها بلال كثيرا ، لعبة (ساندرياس).
استأذنت من والدتها لتمنح لهما أربع ساعات متواصلة على الحاسوب فوافقت أم بلال، شريطة أن ينهي واجباته المدرسية قبل ذلك..
بعدها لم تفعل نور شيئا طوال أربع ساعات سوى الضحك والمرح رفقة بلال، حتى نسيت تماما ما جاءت لأجله..
حين انتهت الأربع ساعات، جلبت نور قطعا من الكعك مع فنجانين من القهوة، وجلست بجانب بلال، وأخذا يتجاذبان الحديث حول ساندرياس وإحراز النقاط..ثم انعطف الحديث وأخذ مجرى آخر، حين سألت نور أخاها بلال عن كم العنف الموجود باللعبة، وعن حركات بطل اللعبة(سي جي)، ولماذا يرغب في الانتقام وقتل الناس؟
فحدثها بلال عن اللعبة، وعن مأساة(سي جي)، وأنه مكث سنوات في السجن بسبب الظلم الذي تعرض له من قبل مع الشرطة الفاسدة..
أخذ بلال يتحدث ونور تستمع فقط دون أن تقاطعه، تحدث عن الظلم، عن الفساد، عن ظواهر الأشخاص وبواطنهم، ثم قال:
- تعرفين؟ منذ أسبوع حدثني فتى يكبرني بثلاث سنوات، فتى من ذلك النوع الذي يشار إليهم بالفساد، فيهمزهم الناس، ويلمزونهم...شعر منكوش، سروال مقطع، سلسال على الرقبة، وشم في الذراع وهلم جرا..
في هذه اللحظة، أرعت نور كامل سمعها، وأرهفت كل حواسها، وجلست تنتظر المزيد..
واصل بلال سرد قصته، فقال أن ذلك الفتى جلس أمامه، وحكى له ضياعه، وأنه من بين كل أبناء الجيران توسم فيه خيرا، ويريد منه مساعدته...حكى له ظروفه ومأساته، والمشاكل التي يعاني منها مع بيت منهار، ووالدين منفصلين، ومشاكل لا تعد ولا تحصى..
وأنه لجأ بسبب كل ذلك إلى رفقاء السوء، فتعلم منهم كل منقصة، ويخاف على نفسه من مآلات هذا الطريق...لكنه لا يعرف كيف ينجو بنفسه، ولا كيف يسحب نفسه من شلة السوء تلك..
- بم أجبته؟ وكيف يمكن مساعدة هذا الفتى الطيب؟ قالت نور تريد سحب الكلام من أخيها، كان لديها ثقة به، وبنفس الوقت تخاف عليه أن يتورط مع أمثاله..
- صحبة المسجد، وبعض الفيديوهات حملتها له من اليوتيوب ليسمعها، لا يوجد حل آخر..ولا أريد تمثيل دور الشيخ، فأتورط معه..لازلت في طور التعلم أنا الآخر، وأخاف على نفسي أيضا..
ذهلت نور من إجابة بلال، وراقها العقل الكبير الموجود بداخل ملامح الطفل البريء تلك، وراحت تطرح المزيد من الأسئلة.
- لكن هل تكفي حقا صحبة المسجد؟ أتمنى من الله أن يكون معه، الأمر ليس سهلا. إنه جهاد كبير.قالت نور
- لقد عرفته على الشيخ، وقصصت عليه خبره، ولا أظن الشيخ سيتركه..إضافة أنه سيملأ وقته لحفظ القرآن في المسجد، ويتنافس مع أقرانه، علاقتنا مع الإخوة رائعة في المسجد، وتلك الروح التنافسية على الحفظ، تصنع جوا من البهجة، ينسيك العالم الخارجي تماما..أنا متفائل خيرا بذلك..(رد بلال)
*************
كانت حليمة ونور، تحملان هم الأخ الأصغر، بسبب خيبات سابقة عاشتاها مع الشقيق الأكبر الذي اعتنق العلمانية، والشقيق الأوسط الذي اختار التشدد..
كانتا مصدومتان تماما، فالواضح أن أبناء هذه العائلة من الذكور، سبب للهم والغم في أسرة لم تعرف سوى السعادة والهناء من قبل.
كانت الابتلاءات تتوالى على ذلك البيت الصغير، بشكل نسي فيه الوالدان أن لهما أربعة من الأبناء الآخرين، ينتظرون الرعاية والاهتمام، ومن يربت على مخاوفهم ومشاعرهم بحنان..
لقد ترك هؤلاء الأربعة للخواطر والهواجس تتآكل قلوبهم وعقولهم الصغيرة..
مضت الأيام تركل بعضها...غادر الشباب المنزل لأجل الضرب في الأرض، والبحث عن لقمة العيش..
تزوجت حليمة وفارقت المنزل، والتحقت الصغرى بكلية بعيدة..
وبقيت نور في المنزل رفقة الصغير بلال..
كبر بلال وأصبح شابا مكتمل الرجولة والبهاء...شاب كما يقول المثل السوري(أختو بتعشقو).
شاب هادئ، وسيم ، يلوذ دوما كعادته بالصمت..
ولم يتخل عن طبعه الكتوم، لدرجة كانت تسبب القلق لوالدته التي فجعت بأبناءها الآخرين..وكذا والده الذي لم يكن يكف عن استجوابه كل يوم، من دون أن يحصل على كلمة يطمئن بها على حاله..
أما نور فلم تكن أحسن حالا من باقي أفراد الاسرة مع بلال..ومع إحسانها الظن إلا أن المخاوف والهواجس لم تكن تفارق رأسها الصغير..كانت تخاف على بلال رفقة السوء، تخاف عليه أن يشبه مصيره، مصائر أخويه السابقين...تخاف عليه الإلحاد، والتطرف، وكل مشكلات الكون وتحديات العصر التي تتهدد هذا الجيل من الشباب...فتن متلاطمة كقطع الليل المظلم..
نور كانت تؤمن بثقافة الخصوصية، وفن المساحات، وكذا عدم مصادرة حق الغير في التجربة والخطأ..
لكن طبع بلال الكتوم، جعل قلبها لا يهدأ، وبالها غير مطمئن عليه..
إضافة انها كانت تحلم أن ترى بلال يشغل وقته بالنافع من الأمور، كانت تتمنى لو أنه يقوم بالتطوع في الجمعيات الخيرية كما يفعل الصفوة من الشباب، أو يلتحق بفريق كرة قدم يشغله قليلا ويملأ أوقاته الفارغة تماما، كانت تتمنى أن يكون من هؤلاء الذي يفتحون كتابا، فيفتح لهم آفاقا من الفكر، ويربت على حيرتهم، ويجيب على تساؤلاتهم المختلفة.
لكن شيئا من ذلك، لم يكن موجودا ببلال...كان شابا يدرس سنته الأولى بالجامعة، وحين يعود يقضي وقته كاملا رفقة الأصحاب، وأي أصحاب، لا أحد يعلم عنهم شيئا بعد..
************
بلال صرح لنور ذات مرة عن تجاربه في الأنترنت، عن حبه للتصميم، عن تعلمه فن القرصنة، كما ذكر لها أنه دخل مواقع الدارك ويب، فصعقت لأجل ذلك..
كانت تتمنى لو تعرف ماذا يدور برأسه، أي أفكار تقفز إلى دماغه، من أين أتت؟ من أصدقاءه بالتأكيد، أو مما يراه على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لا أحد يعرف..
كانت نور ترى خيبة أخرى في الاسرة، تلوح في الأفق، ولم تكن مستعدة لتحملها هذه المرة أيضا..
وكانت تلوذ بالدعاء في صلاة القيام، كي يحفظ الله شقيقها بلال..
لكن الأيام كانت تحمل ما يعمق مخاوف نور..
فبلال كان يبكر صباحات الجمع خارج المنزل، ويغيب حتى منتصف النهار، وحين يعود تسأله والدته عن سبب بكوره، فيتعلل أنه كان رفقة أصحابه..
- هؤلاء الاصحاب يأخذون عقله ووقته وجل تفكيره..أصحاب، أصحاب...لا يجيد سوى هذه الكلمة(قالت والدته بحنق).
استمر قلق نور، وتفاقمت سلوكات بلال الغريبة التي عمقت مخاوف نور كما لم تخف يوما من قبل..
فقد كانت كل تصرفات بلال تدعو إلى الريبة، من ذلك أن نور وفي أثناء ترتيبها خزانة الثياب الخاصة ببلال، وجدت مبلغا كبيرا من المال(عشرة ملايين) يخبئه بلال جيدا بين ثيابه....ترك ذلك المبلغ مدة يومين، ثم اختفى من خزانته بعد ذلك...فانتاب نور الهم والغم..وعمدت إلى سؤاله بطريقة غير مباشرة فقالت له:
- بلال، أود سؤالك، عمتي خديجة وجدت مبلغا كبيرا من المال بين ثنايا الأغطية والأفرشة، تعتقد أنه يعود لولدها "مراد"، ولا تدري من أين جاءه المال..ما رأيك أنت؟
- ذلك المال يعود لتاجر مخدرات يستغل ابن عمتي مراد..أعرفه جيدا، وأعرف علاقتهما معا، وكل المدينة تعرف ذلك، عدا عمتي المسكينة(قال بلال)
- معقووول، كان الله في عون عمتي..يا للمصيبة التي حلت بها..
انتهى النقاش في مهده، فلم يكن بلال شخصا يستكثر من الكلام، وأسقط في يد نور، فلم تكن من النوع الذي يكثر من نمط الأسئلة المخابراتية، وكانت تخاف أن تقع في سوء الظن فتفقد ثقة أخيها بلال إلى الأبد..لم تعرف هل تفرح بإجابته التي تدل على وعي ونضج كبيرين، أم تتأول أن الإجابة تدل أنه يعلم جيدا كوليس ذلك الوسط الموبوء، لأنه ربما يحمل عضوية في نادي السوء ذاك..
كالعادة استغفرت نور الله بإسراف، لكن الوساوس والهواجس مالبثت تزورها باستمرار...
كان والد بلال يمنع بلال من أن يسهر خارج البيت بعد الساعة الحادية عشر...وكان بلال يلتزم بذلك حرفيا، فلا يزيد عن الوقت المتفق عليه، متجنبا مناوشات قد تحدث مع والده بسبب الأمر..
لكن بلال مؤخرا، صار يذهب خلسة على الساعة الثانية عشر، وأحيانا الواحدة ليلا، دون أن يعلم والده بذلك، يغيب لفترة قصيرة جدا، ثم يعود أدراجه لينام..
كانت نور الوحيدة التي تتفطن لفعلته تلك، ولم تعرف السبب وراءها..
سألته مرة أو اثنان عن ذلك، فقال لها أمر خاص..منهيا بذلك محاولاتها لمعرفة الأمر..
وذات ليلة كان نائما كالعادة، فتلقى اتصالا هاتفيا على الساعة الواحدة ليلا، ففتح الباب خلسة وخرج مهرولا من تحت فراشه الدافئ، إلى مكان مجهول...ثم عاد سريعا ككل مرة..
بدل ثيابه، ثم نام قليلا، وفي الصباح توجه إلى جامعته البعيدة..
نور لم تنم ليلتها تلك بسبب تصرف بلال، ولم تجرؤ على إخبار والديها بالأمر، لم تعرف ماذا تفعل، ثم توجهت إلى غرفته وقامت بتفتيش حاجياته..فعثرت على ملابس عليها أثر القيء الذي كان بلون قريب من اللون الأحمر القاني، ورائحة نفاذة وغريبة..
قامت نور بغسل الثياب قبل ان تتفطن والدتها للأمر...ثم توجهت إلى هاتفها تبحث عن إجابة، فاكتشفت أن ذلك القيء واللون يعود ربما للخمر..
- خمر؟! يا إلهي هذا لا يحتمل..
ارتجفت نور، وسقط الهاتف من يدها، وتسارعت دقات قلبها، وضاقت عليها الأرض بما رحبت..
هذه المرة عزمت على مواجهة بلال، لتحصل على إجابات لأسئلتها، وليحدث ما يحدث، فقد باتت لا تستطيع تحمل فرط التفكير والهواجس التي تنتابها.
**************
انتظرت نور أسبوعا كاملا، حتى يعود بلال من جامعته..كان في مزاج سيء، فآثرت تأجيل الأمر قليلا..
- اصبري بعد، لم يبق القليل لموعد المواجهة..قالت نور تحدث نفسها..
في الليل زارها ألم الضرس، وحرمها النوم، فقررت زيارة طبيبتها الخاصة بوهران..وطلبت من بلال مرافقتها..فوافق على الفور..
في الحافلة تحدث بلال كثيرا يومها، ولم تتمكن نور من مقاطعته، وآثرت كالعادة تأجيل المواجهة..
كان حديثا حميما ينم عن قلب عطوف بالغ الرقة، مع عقل مكتمل الرجولة والنضج..
أتمت نور مهمتها، وعادت أدراجها إلى المنزل...وفي طريق العودة الطويل ذاك، لم يكف بلال عن الكلام في الحافلة، وكأنه كان ينتظر اللحظة المناسبة، ليفرغ حمولة قلبه بعد كل تلك السنوات من الكتمان..
تحدث عن قيم المسجد الجديد، وكيف أنه أسوأ شخص عرفه في حياته..
- تخيلي، لم نعد ننظف المسجد أيام الجمع، لأنه لا يثق بنا، عكس قيم المسجد القديم "أبو مروان"، الذي كان يفرح بنا ويهش ويبش في وجوهنا، ويمدنا بكل أدوات التنظيف..كان رجلا رائعا بحق..
- هل كنتم تنظفون المسجد؟ متى وكيف؟ لم أرك يوما تفعل هذا، ولم تخبرنا يوما بذلك؟
(قالت نور والدهشة تملأ عقلها)
- معقول، لا تعرفين..وماذا عن ذلك البكور أيام الجمع؟ ونصف اليوم الذي كنت أغيب فيه عن البيت!!
- لكنك، لم تصرح يوما بذلك(قالت نور)
- هذا العمل لوجه الله، لو صرحت به لن يرتفع ثواب العمل إلى السماء.(أجاب بلال).
- هل أخفيت عنا أمورا اخرى يا بلال؟ هات اعترف الآن..قالت نور ممازحة بلال.
- لا تعلمون مثلا أنني اعمل في جمعية خيرية، وأن مهمة الاحتفاظ بالتبرعات موكلة إلي، وأني أخبئ مال الجمعية كل مرة ويكون في العادة مبلغا كبيرا، هل تعلمين بهذا؟
-لا، لم أكن اعلم بهذا (قالت نور ذلك مدعية أنها لا تعلم بالأمر، وكان قلبها المسكون بالهواجس والوساوس قد بدأ يهدأ أخيرا، بعد طول عناء).
-تعلمين لم لم أعلمكم بكل هذا، أنت تعرفين ردة فعل والدي، وإطلاقه للأحكام الجاهزة، وتعلمين الخوف الذي يسيطر على والدتي، خوفها وحبها المفرطين يخنقانني..
- لكن، ما الذي استجد اليوم، لم تخبرني بكل ذلك؟قالت نور
-الولد يختلف عن الفتاة يا نور، أنتن الفتيات تهرعن إلى أمهاتكن حين تواجهن أية مشكلة، لكن الولد حين يشب يعمد إلى إخفاء كل شيء عن والديه، ويرغب بالاستقلالية، والانعتاق من التبعية حتى يحقق الرجولة المنشودة..
- أقنعتني أيها الرجل الصغير(قالت نور مداعبة بلال).
- ليس هذا فحسب، هنالك أسباب أخرى، أترين طريقة والدي في التربية صحيحة؟
يريد اختيار أصدقاءك، يقيس حركاتك وخطواتك بالقلم والمسطرة، يمنعك من التجربة ويصادر حقك في التعلم والخطأ، ويمنعك من مخالطة أناس معينين..
لكنني نضجت الآن، ولدي أصدقاء من كافة الأطياف، وقد خبرت قلوب الرجال حين مارست العمل التطوعي..ودرست بالجامعة...المظاهر وحدها لا تكفي للحكم على الناس...
- نعم، كلامك صحيح، أوافقه تماما.
أضاف بلال قائلا:
تخيلي لدي أصدقاء مدخنون، لكنهم يصلون ويسارعون لفعل الخيرات، ويتطوعون معنا بالجمعية..
أعرف أشخاصا متعاطين أيضا، لكنهم بحاجة ماسة لمن ينتشلهم من ضعفهم ذاك..
هل تتذكرين صديقي سمير؟
- نعم، أذكره جيدا، ذلك الفتى الطيب الذي التحق بالجيش ليعيل أسرته؟
- نعم هو ذاك....(أجاب بلال واكتست ملامحه غلالة حزن غامضة..)
- لقد تغير حاله كثيرا ...مؤخرا صار يشرب ويسكر..
يهاتفني كل ليلة ويطلب مني أن أوصله للمنزل حين يكون ثملا..
فأهرع إليه من نومي، يستند علي، وأجره كل ليلة إلى منزله، والناس ينظرون..
إنهم يتحدثون عنا بالسوء..ويسيؤون بنا الظنون..
أتعرفين أقسى ما في الموضوع؟!
لا يهمني رأي الناس بي ولا تهمني نظراتهم ولا همزهم، فأنا أعرف نفسي وصديقي جيدا..
إنما المؤلم في الأمر أن أصدقاءنا الآخرين انفضوا من حولنا أيضا، وجعلوا منا فاكهة لمجالسهم..
يتحدثون عن سمير، ولا يعلمون أنه يحمل هموما تنوء بحملها الجبال..ووالله لو علموا بمصابه لخجلوا من أنفسهم على ذلك..
سمير فتى بقلب ماسي، فتى طاهر ونقي، لم يكن كذلك من قبل، لقد كان شاب مستقيما من أقرب الأصحاب إلى قلبي، ولي معه مواقف رجال لا أنساها له..
مؤخرا صار يشرب كثيرا، نتكلم معه، فيعدنا أنها المرة الأخيرة، ثم يعود مجددا للسكر والعربدة..
صرت أخجل منه ومن تصرفاته، وذات يوم أغلظت له القول والنصح، فانهار تماما، وأخذ ينشج ويشهق ببكاء مرير مثل طفل صغير..
سمير كان رجلا تام الرجولة، ليس ضعيفا، ولا جبانا، ولا هشا في مجابهة المشكلات..
كان يبكي ويتحدث بصوت متهدج يقطع نياط القلوب، عن مشكلاته الأسرية..عن جفاء والده، وخيانته لزوجته، وظلمه لأولاده، عن لا مبالاة أخيه...عن الفقر...والجوع...
ثم قال لي هل تعرف أني اكتشفت أني لست ابنا شرعيا؟
أغمض بلال عينيه، ونكس رأسه، وانحبس الكلام داخل شفتيه..وأومأ لنور أنه لا يستطيع إخبارها بالمزيد...وأن تلك المصيبة التي اكتشفها سمير، واحدة فقط من عديد المصائب والهموم التي يعانيها..
كانت هذه المأساة مصدرا لأزمة شديدة في حياته، لقد شعر وهو فتى حدث في التاسعة عشر من العمر، أنه أوقظ بشدة من أحلام مدرسته، ليشهد حقائق الحياة الواقعية القاسية.
تلك المصائب انهالت على قلبه دفعة واحدة، فقصمت ظهره وقضت على ما تبقى من صبره وثباته..
- يا الله!! يا لقلب الفتى المسكين، كان الله بعونه.
قالت نور ذلك واستندت على كتف شقيقها بلال، كان قلبها مفطورا، قد انشطر إلى نصفين..ويتعارك بقلبها شعوران متضادان، شعور الحزن العميق لأجل الفتى سمير، وشعور الحب والإعجاب لموقف شقيقها بلال، والقلب النبيل الذي يحمله بين جوانحه..
لقد شلها هذا الأمر تماما، ولم تجد بدا من أن تريح رأسها المثقل على كتف بلال..
بلال استغرب سلوكها ذاك لوهلة، ثم استسلم لمشاعر الدفء التي أزاحت البرود وجبل الجليد الذي أخفى من وراءه عن قلبه الدافئ المكلوم..
ونور وجدت أخيرا رجل البيت، الذي يستحق أن تتكئ على كتفه أخيرا..
- بلال، لا تتركه، سمير بحاجتك، أرجوك لا تتخلى عنه.(قالت نور جملتها تلك وغطت في نوم عميييق).
- لن أتركه، اطمئني يا نور..
*تمت*
#شمس_الهمة