تأثير البيئة والمجتمع والزمان في صناعة الفتوى:
(خواطر وقراءة في كتاب حجاب الرؤية لعبد الله بن رفود السفياني)
لطالما نفرت من الفتاوى السلفية -المتأخرة- حقيقة بسبب تشددها، وكنت بيني وبين نفسي أعزو سبب التشدد للبيئة السعودية الصحرواية التي تحكمها أخلاق البداوة ورباط التقاليد.
فأصبح للعادات حضور طاغي بضراوة وقوة، حتى امتلكت قدسية كقدسية الدين، بل اختلط ما هو عادة بما هو شرع ودين.
ومما زاد من يقيني بصحة اعتقادي أو جزئية صوابيته على الأقل أنني كنت أصادف لنفس القضية أو الموضوع فتاوى سلفية مصرية لكنها أرحم بكثير من الفتاوى السعودية وأسهل للتقبل وأكثر مرونة.
- من ذلك مثلا قضية ذهاب المرأة إلى المساجد للصلاة، فرغم أنه يوجد نص قاطع في المسألة ينهى عن منع المرأة من ارتياد بيوت الله، إلا أن للتشدد والتنطع حكمه وفتواه، فتجد غالب الفتاوى السعودية والخليجية تعطي الزوج الحق بمنع المرأة اذا كانت متعطرة أو كان هنالك سلوكات رجالية لا تحترم آداب المساجد، وكل ذلك تحت مسوغ سد الذرائع، وخشية الفتنة.
بينما لو تأملنا نص الفتوى ونص السائل نجد تناقضا رهيبا، فهذا الذي لا يستطيع منع زوجته من التعطر والتزين، كيف يستطيع المنع اذا كان الأمر متعلقا بالمسجد!!
هنا يتضح جليا أن العادات هي التي تحكم، وأن تلك البيئة لا تسمح للمرأة بالخروج خمس مرات في اليوم، وليس خوف الفتنة كما يدعون.
مرة أخرى أصادف نفس الموضوع للشيخ العدوي في احدى محاضراته يجيب فيها على هذا التساؤل فيقول:(( حتى المتعطرة والمتزينة نمنعها من ولوج بيت الله ليه؟يمكن تسمع لها كلمة حلوة ترقق قلبها للالتزام، فالمساجد فيها خير كثير، وهاتلي احنا حنستفاد ايه من المنع؟، بتقولي فساد في الشارع وفي أخلاق الناس اليومين دول، ايوة بتفق معاك، لكن ماهي هيا بتخرج تشتري وتخرج لأمور أخرى، بتمنعها المسجد بالذات ليه؟ ما يمكن بصلاحها يتصلح حال الأفراد والناس) انتهى نص كلام الشيخ.
- فتوى سياقة المرأة للسيارة، وماحملته من لغط كبير وسخرية واستهزاء من البعض- والتي شخصيا لا أوافقهم عليها- كانت بسبب طبيعة المجتمع السعودي، وطبيعة تفكير الرجال وشيوخ القبائل هناك، فلا يمكن بحال لمجتمع امتاز لحقبة طويلة بالبداوة وانتقل فجأة لبحبوحة مالية قفزت به قفزة كبير في عالم الحداثة والعمران أن يصبح متمدنا بين ليلة وضحاها.
وإني لأتخيل سطوة العادات والتقاليد على العلماء والمشايخ، وأوامر شيوخ القبيلة وتترسهم بالدين للاحتماء خلفه من تسارع وتيرة الحداثة على المجتمع، وخوفهم الشديد من انفلات الأمور، وهذا أمر طبيعي فلايمكن بحال مطالبة هؤلاء بأكثر مما كان، في وضع لم يكن استعدادهم كافيا، وهذا ينطبق أيضا على كل المجتمعات المتخلفة التي وجدت فجأة نفسها أمام تيار الحداثة الجارف.
ولطالما سمعت لأكثر من واحد من العلماء أنه لا يوجد نص بتحريم سياقة المرأة للسيارة، لكنها مشكلة أعراف وتقاليد ومجتمع غير مؤهل بعد.
لكن ما عابه الآخرون على علماء السعودية استخدام الفتاوى في تحريم ما لم يحرمه الله(ولعلي لا أفقه شيئا في الموضوع، لذلك لا أحب الولوج فيه).
- قصة أخرى توضج جليا تأثير البيئة على العلماء والمشايخ، ولعلي أذكر هنا مسألة تغطية الوجه بالنسبة للمرأة، والتي تجمع الفتاوى السلفية تقريبا على وجوب تغطية الوجه، بينما يخالف الألباني مع أنه سلفي ما يقول به جمهرة السلفيين، وقد حشد وهو خبير بالحديث والدليل ما يعضد موقفه ذاك، وله كتاب كامل حول الموضوع اسمه(الرد المفحم، على من خالف العلماء و تشدد و تعصب، و ألزم المرأة بستر وجهها و كفيها وأوجب، و لم يقتنع بقولهم: إنه سنة و مستحب)، طيب لماذا شذ الألباني في هذا عن جمهرة علماء السلفية؟ انها البيئة مرة أخرى، فالألباني عاش في بيئة لم تعرف نساؤها النقاب ولا غطاء الوجه، ولو عاش باحدى دول الخليج لكان له نفس رأي مشايخ السعودية ربما.
ولست هنا في معرض مناقشة وجوب تغطية الوجه من عدمه، انما أريد تبيان تأثير البيئة على العالم والمفتي.
- قصة أخرى سمعتها من أخي قال فيها واعترف لأول مرة بأننا نختلف عن المجتمع السعودي، يتداولها المداخلة والسلفيون عن الشيخ فركوس، يقول فيها أن بعض طلبة العلم المتشددين أوغروا قلب الشيخ ربيع المدخلي على الشيخ فركوس وقالوا بأنه مميع لأنه لوحظ أكثر من مرة حين يكون ماشيا رفقة الاخوة، تستوقفه المرأة للسؤال فيجيبها.
يقول أخي: أن الشيخ ربيع بعث يستفهم من الشيخ فركوس، فأجابه الأخير بأننا في الجزائر نختلف عن المجتمع السعودي الذي لم يعهد هكذا أمور، وأن المرأة في الجزائر تستوقف الشيخ بطريقة عادية ويجيبها بدون أن يثير هذا حفيظة أحد في الشارع الجزائري، لأننا مجتمع منفتح ولسنا مثل السعودية التي لا تحدث فيها هكذا أمور.
- مسألة أخرى أسوقها عن الشيخ فركوس، وهي نقاش حدث بيني وبين أخي مرة ذكرت له فيه أن الشيخ القرضاوي يجيز ذهاب المرأة إلى الحج ضمن رفقة مأمونة، فكان أخي يستنكر هذه الفتوى بشدة ويستهزئ بها وبالشيخ القائل، لأن مشايخ السعودية لا يجيزون هذا البتة.
مرت أعوام على تلك المناقشة، ثم وقعت قدرا على فتوى للشيخ فركوس تجيز سفر المرأة للحج ضمن رفقة مأمونة، استشهد فيها بأن ابن عمر كان يحج بجاراته، وأدلة أخرى معها تعضد فتواه، وحين وضعت نص الفتوى أمام أخي اعترف بتشدد مشايخ السعودية، وأثنى على رأي الشيخ فركوس وقبل أدلته( وهنا يتضح جليا أن الأتباع انما يقدسون الشيخ، كونه لم يقبلها من القرضاوي، لكنه قبلها لأن شيخه قال بها).
- مسألة أخرى توضح تأثير البيئة على العلماء، وهي أنني قرأت الكثير من الفتاوى التي تقول بأن خدمة أهل الزوج ليست واجبة على الزوجة، وهذه الفتوى رائجة في أكثر من مذهب، وفتوى أخرى يقول فيها العلماء، لايجب على المرأة خدمة والدي الزوج المريضين وأن يقوم هو بخدمتهما أو استئجار خادم لهما.
لكن تفقدت فتوى الشيخ فركوس مثلا فوجدته يقول بأنها تخدمهم وفق العادة و ما تعارف عليه الناس.
تخيلوا معي لو أن الشيخ أفتى باستئجار خادم، هل ستكون الفتوى موضع قبول لدى الشعب الجزائري الذي لا يملك في قاموسه وأعرافه ثقافة الخدم مقارنة بدول الخليج مثلا.
- ومن ذلك أيضا فتوى تحريم الدراسة في الجامعة على الذكور والإناث بحجة الاختلاط، فتوى من أولئك الذين يوفرون ثانويات وجامعات غير مختلطة لأبنائهم وبناتهم، تصدر لنا نحن في الجزائر، حيث كل مدارسنا مختلطة، فهل راعى الفقيه ظرف البلد وضرورة العلم؟
مع العلم أن هذه الفتوى تسببت بضياع مستقبل العديد من النوابغ خصوصا الإناث، ووالله إني لأعرف شباب من الذكور كانوا من النوابغ، لم يكملوا تعليمهم الجامعي بسبب فتوى تحريم الاختلاط، وهم الآن يقاسون الويلات في سبيل لقمة الخبز، أما مستواهم العلمي فقد تهدور للحضيض بسبب اللهاث وراء البحث عن عمل يوفر لهم حياة كريمة.
فهل نعطل عجلة الحياة والتعليم فقط لأن مدارسنا مختلطة؟
ما أريد ايصاله من كل هذا افهموا مجتمعاتكم وبيئاتكم، ولا داعي للفتاوى المستوردة التي لا تناسب طبيعة مجتمعاتنا.
ولعل كتاب حجاب الرؤية لعبد الله بن رفود السفياني يوضح الأمر أكثر ويتعداه لتأثيرات السياسة والأزمنة، والفتن وووو.
وهذا وصف الكتاب(( لأننا بحاجة إلى ترشيد نظر الفقيه والكشف عن كل المؤثرات في انتاج خطابه حتى يكون خطابه أقرب إلى الوصل للحقيقة. ولأن الأخطر في تلك المؤثرات هي المؤثرات الخفيه التي ربما لا يشعر بها الفقيه نفسه والتي ربما تتسلل إلى رؤيته وتؤثر على إنتاجه للحكم دون ان يشعر.
نفسية الفقيه عاداته وعادات مجتمعه... البيئة التي نشأ فيها..السلطة التي يخضع لها...كيف تؤثر كل هذه الحجب على رؤيته وخطابه وانتاجه الفقهي؟
وكيف يمكن للفقيه أن يدرك هذه الحجب ويعترف بها؟ ثم كيف يمكنه أن يتخلص منها ويخفف من آثرها ليكون أكثر قربا لإنتاج الأحكام على الوجه الأكثر قربا من الشريعة؟
هذا البحث قراءة جديدة لهذه الحجب، ونماذج لها، ومقترحات من أجل التخفيف من آثارها.))
ملاحظة: هذه مجرد خواطر ارتجلتها الآن، ولعل سبب أنها تتناول كلها الفتاوى المتعلقة بالمرأة، أني امرأة وبالتالي طغت بحوثي أكثر على موضوعات المرأة.
ولأن فقه المرأة من أكثر الموضوعات التي التبس فيها الشرعي بالاجتماعي.
اقتباسات من الكتاب:
- الفقهاء بشر ولذلك يعتريهم مايعتري بقية البشرية من مؤثرات ونقاط تؤثر بشكل مباشر في اختياراتهم وترجيحاتهم ولمحاولة تخفيف النظرة التقديسية ووضعهم في المنزلة الملائكية وادعاء العصمة لآرائهم واختياراتهم مما هز مكانتهم عند عامة الناس.
- بين أيدينا حديث خرجه البخاري قال:( لما عرس أبو أسيد الساعدي دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ .
وبوَّب عليه البخاري بقوله : باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس.
واذا نظرت الى هذا الحديث علمت أن المجتمع النبوي لم تكن له عادة تمنعه من ذلك، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أو أحد من الصحابة الذين حضروا الدعوة، ولكنك اذا أردت أن تطبق ذلك على زمان الناس اليوم بحجة الإباحة فقد عرضت نفسك للتصادم مع العادات والتقاليد التي عزلت المرأة عن هئا الأمر واعتبرته منكرا من القول وزورا.
-ومن أفتى للناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية ممن طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم.
- يقول القرافي رحمه الله في الفروق:( لا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك شخص من غير اقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ظلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.)
-وعلى الذين يتذمرون من عدم تقبل الناس للخلاف، وما يحصل من ردود قوية وصاخبة، أن يتفهموا الوضع جيدا، فالمجتمعات لدينا نشأت من فترة طويلة على فكرة الاتفاق، والائتلاف والقول الواحد ردحا من الزمان، واطلاعهم على الحقيقة الجديدة هو صدمة قوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهم بحاجة لفترة زمنية كافية للادراك والاستيعاب، لأن الصدمات الثقافية والاجتماعية، تختلف كثيرا عن الصدمات النفسية التي قد تزول بفعل الأدوية المخصصة أو مع الزمن اليسير.
- أليس لطبيعته النفسية وسماته الشخصية من لين أو قسوة، أو انطواء أو انبساط أو انغلاق أو انفتاح أثر في اختيار ما يناسب هذه السمات والطبيعة، وأن هذا التناسب يظهره الفقيه في صورة اختيار فقهي مدعم بالدليل، وهو قبل أن يسنده دليل شرعي، ساندته الطبيعة والجبلة؟!
هذه البيئة التي يعيش فيها الفقهاء كغيرهم بنواحيها الجغرافية من سهل وجبل وبر وبحر وضيق واتساع وبرودة وحرارة، ونواحيها الاجتماعية من قيم وعادات وأعراف وتقاليد، ونواحيها الثقافية والحضارية وأنماط الفكر، والعلم وطرائقه، ألا يمكن أن تؤثر بشكل أو بآخر في تعامل الفقيه معها ومع الحياة فيها، مما يكسبه طرقا معينة في الاختيار والترجيح!!
#شموسة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق