فرعون صغير!!
كنت في فترة الثانوية، عندما طلب مني والدي شهادة مدرسية من الثانوية التي أدرس بها، تحمست للأمر وعقدت العزم على تنفيذ الطلب وجعلته كتحد بيني وبين نفسي آنذاك.
توجهت وصديقتي التي كان لها نفس طلبي، فكلا أبوينا كانا في سلك التعليم، وهذه الشهادات تطلب من كل المنتمين إلى القطاع الحكومي، ما جمع بين أبوينا ليس فقط قطاع التعليم، ولكن كان بعد المسافة بين مكان العمل والسكنى، مما جعلاهما يوكلان المهمة لنا نحن الأبناء.
توجهت لمبنى الإدارة المستقل تماما عن حجرات التدريس، والذي كان يشكل لغزا ويثير فضول كل الطلاب لإلقاء نظرة عابرة أو ربما أخذ زيارة خاطفة إليه.
توجهت نحو مكتب نائب المدير، فلم يكن يسمح لنا بمقابلة **سمو المدير ** شخصيا، حتى أن أحدا لم ير شكل وجهه طيلة فترة تمدرسنا بالثانوية، والتي كانت ثلاث سنوات، فقد كان الأخير نادر الظهور، كثير الغياب مثل شبح( حتى أنك تحسبه وتتخيله *المعلم الكبير * الذي كان يوجه من بعيد *مراد علمدار*، يلبس السواد دوما ولم يسبق لأحد رؤية وجهه من قبل)،
كان من بين أسباب الغياب، أنهم يوكلون إليه إدارة أكثر من مؤسسة تربوية.
قدمت الطلب، فطُلِب مني الانتظار ليومين أوثلاثة كأقل تقدير، مضت الأيام الثلاث على حالها ولم نُستدعَى لتسلم الشهادات، فتوجهت وصديقتي إلى مبنى الإدارة ثانية، فقيل لنا أن نائب المدير غير موجود، وبالصدفة التقيت احدى العاملات بالمكتبة، والتي شكلت معها صداقة جميلة لكثرة ترددي على مبنى الإدارة، فنصحتني بعدم تصديقهم ومتابعة التقصي عن أمر الشهادة، كما أنها طلبت مني انتظار نائب المدير للتأكد من - وجوده من عدمه - .
انصعت لطلبها وبقيت مكاني، حتى خرج نائب المدير من مكتبه الخاص، فقد كان موجودا به طيلة الوقت، تماما مثلما ذكرت لنا تلك العاملة الشريفة.
نقلت إليه استفساري وطلبي، فإذا بي أفاجأ بأنه وقع كل الطلبات، وأنها برفقة البواب"شريف"!!
هكذا كان اسمه، كانت نظرتنا المسبقة عن البواب أنه شخص صادق شريف، وكنا نكن له بالغ الاحترام.
فهو لا ينتمي لطبقة أصحاب القمصان الفاخرة، والبطون المنتفخة، الذين يتلاعبون بالمساكين أمثالنا، ويجدون متعة في التعالي علينا وتعذيبنا بسبب أو من دون سبب..
توجهت وصديقتي إلى مكتب البواب، فبحث الأخير في الشهادات الموجودة أمامه بضع ثوان، ثم أردف بأن طلبنا غير موجود وأنه لم يوقع بعد، ونصحنا بالعودة خلال يومين أو ثلاثة.
- يا له من كاذب.
همست لصديقتي، أتحدث عن نائب المدير ذاك.
صدقنا البواب بنية ساذجة بريئة، وعدنا أدراجنا، تكرر الأمر لمدة أسبوع ومسلسل التعذيب مستمر،
وأولياء الأمور يلحون علينا بضرورة إحضارها قبل الموعد المحدد لتسليمها.
في اليوم الموالي توجهت وصديقتي إلى البواب، وكلنا عزم على فض الأمر بطريقة حاسمة، أو تقديم شكوى للمدير، توجهنا نحو مكتب البواب فصرخ في وجوهنا:
- "بالأمس فقط قلت لكن أن شهاداتكن لم تجهز بعد، واليوم لم تصلني شهادات جديدة عودوا في المساء".
- ولكن والدي لن ينتظر، قال بأنه سيتقدم بشكوى للمدير، أرجو أن تبحث ثانية.
عند سماعه لكلمة "شكوى"، ارتعدت فرائسه، ولانت لهجته قليلا، وقرر البحث من جديد، وبينما هو يقلب تلك الأوراق، وإذْ بصديقتي ترمق شهادتها، واسمها، ضمن مجموع الأوراق التي تخطاها و تجاوزها، لتصرخ بأعلى صوتها:
- شهادتي... شهادتي..رأيتها.
قلب مزيج الأوراق من جديد، وتوقف عند الشهادة المذكورة، وأخذ يهجئ الإسم بصعوبة، ففوجئنا بأنه كان شبه أمي وأوراقنا ومصائرنا كانت تحت رحمة انسان جاهل و* مستبد*.
ترى لماذا يوكل بمهمة كهذه لإنسان أمي ؟
وماهي التعليمات التي أوكلت إليه، وهل كان أمر الإهانة متعمدا؟
وما الهدف من تعذيبنا طوال تلك الفترة مع كل جموع التلاميذ المنتظرين مثلنا؟
صدق أو لا تصدق إنها الجزائر!!
قبل أن يترسم يشتكي ويبكي "المهم وظيفة "... وبعد الوظيفة يتفرعن ويعطل مصالح المواطن.
فالواقف على باب الوزير يعتقد أنه وزير.. والحاجب على باب الأمير يعتقد أنه أمير.. وسكرتير الأمين أفقد سيده الأمانة.
وأذكر هنا اقتباسا لأحدهم يقول:( لكل مسؤول «حارسه» الذي «يهش» و «ينش» ويعض أحيانا. ويأمر .. وينهى.. وينهر.. ويمارس أفعالا منكرة لا يفعلها الكبار)..
والسبب أن من يجلس على مقعده الوثير خلف الحيطان والأبواب المغلقة قد اختار أن يكون بمعزل عن قضايا الناس وهمومهم.. ومتاعبهم..
والحقيقة أنه كلما بقي هؤلاء الصغار حراسا على أبواب الأكابر زادت معاناة المواطن حيث يتفرعن هذا الصغير المتسلط، وتكبر شوكته ويقوى عوده.
فالواجب من المسؤول أن لا يمنح صلاحياته، ويحتجب عن مراجعيه.
والواجب من المواطن أن لا يخاف أولئك الصغار، أو يساهم بنفخهم برشوته، بل يفضح سلوكاتهم، ويشكوهم لرؤسائهم، فقد تجد رئيسا صالحا وتابعا فاسدا.
#شمس
مقال قديم
من الأرشيف
* * * * * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق