من وحي أزمة الكورونا(صديقان):
سليمان و مجيد جاران متقابلان يفصل بين منزليهما شارع ضيق، هما صديقان حميمان، لا يفترقان أبدا، حتى أثناء النوم، يمشيان معا يدا بيد في الحلم نفسه، أو يهربان معا من الكابوس نفسه. وعندما يستيقظ أحدهما فزعا، يمد يده إلى الآخر، فينتشله من الكابوس.
سليمان رجل أربعيني، قصير القامة، سيء الطباع، كثير الكلام، كان من الأشخاص الذين لا يتركون موضوعا إلا وقاموا بإبداء رأي حوله.
متزوج وله ثلاثة أبناء، ولطالما أرعبت نرفزته كل من حوله، وكان الجيران يتعجبون كيف تتحمله زوجته وأبناءه، ويتعجبون أكثر كيف لشخص بهذه الطباع أن يحظى بصديق حميم، لا يشكو منه كما يفعل باقي الناس.
أما مجيد فكان رجلا في منتصف الثلاثينيات، لكنك لا تميز تضاريس جسمه، له بطن بارزة، وجسم ممتلئ، فلا تميز فيه بين رقبة أو ذراعان، كان مدورا مثل الكرة تماما.
كنت لا تراه إلا راكبا سيارته منطلقا لمكان ما، أو نازلا منها حين عودته من العمل، وهذا يعطي تفسيرا منطقيا لما أصبح عليه جسمه من بدانة ظاهرة.
كان شخصا بليدا، خاملا، لكنه مع ذلك طيب ومسالم وهادئ.
كان يعيش مع زوجته وطفلته، رفقة والدته وخمس شقيقات، فكان بهذا قيما على قبيلة من النساء وحده.
أيام الحجر الصحي، لم يكن يحلو لهما إلا إذا تناولا قهوة الصباح في شرفة المنزل، وبذا كانت أحاديثهما ونقاشاتهما الصباحية اللامبالية، التي تزعج الجيران النائمين، والتي كانت تمتد بعدها لساعتين أو ثلاثة، فالحجر الصحي منع الناس من مزاولة أعمالها.
أما في المساء، فكانا يذهبان معا للمركز التجاري فيقتنيان ما يلزمهما، ويعود كلاهما ليجلس منفردا على كرسي، كل أمام بيته، ليواصلا أحاديثهما الحميمة.
تعاقبت الأيام متسارعة، كما تتعاقب عقارب الساعة، وتسارعت معها وتيرة الأحداث تحمل أخبار السوء،
ارتفع عدد المرضى والمصابين، وارتفع معها أعداد الوفيات، و أخبار النعي والجنازات.
خيم الموت بظلاله على المدينة الهادئة، وانسحب الناس خلسة إلى منازلهم وغلقوا الأبواب خوفا من الوباء، سكنت الأصوات وغابت الحياة عن الشارع والحي، واختفت ضحكات الأطفال، وصرت لا تسمع سوى أنين العجائز والمرضى في كل بيت يسكنه هؤلاء.
- مجيد مصاب بفيروس كورونا احترسوا منه.قال سليمان موصيا جيرانه، ومؤكدا التحذير على بقال الحي الذي أمامه.
- كيف، ومتى، هل أنت متأكد، وهل أسر لك بالأمر؟
- يخبرني هااا، هل سيشي بنفسه؟ لا، لقد استنتجت ذلك وحدي، بيته مقابل بيتي، أسمعه يئن ويسعل كل يوم، وضوء المصباح الخافت يظل مشتعلا طيلة الليل.
تعجب الجيران، كانوا يتحدثون عنه همسا
- لا شك أنه مريض، لا بد من التأكد، فليتصل أحد به ليسأله.
- لا داعي لذلك، لن يخبر أحدا، بل سينكر...رد سليمان
وحمل أغراضه متجها نحو بيته ومغلقا الباب على نفسه بقوة كما لو كان معتقدا أن الفيروس يتعقبه، ويتبعه من وراءه.
في المساء عاد سليمان إلى البقالة منتشيا، وأخذ يضحك وجيرانه من حوله حائرون
- قلت لكم أنه مصاب، كل الإشارات تدلل على ذلك.
- أي إشارات، سأل الجيران بحماس.
- شرفة المنزل لقد نشروا بها الغسيل، وشراشف السرير، وكذا السجاد.
- قهقه الجيران بصوت واحد، وهل هذه الإشارات كافية يا رجل، لقد درج الناس على هذا منذ القدم!!
ضرب سليمان كفا بكف، وقهقه ضاحكا، هل تظنون بي الجنون حتى أقول كلاما غير معقول؟
الشراشف والغسيل والسجاد مر عليهم ثلاثة أيام، كان فيها مطر ورياح محملة بغبار، لكنهم تركوها هناك، لا أحد التفت إليها وكأنهم غير موجودين بالبيت، هذا دليل قاطع أنهم مرضى، لذلك لم يقوموا بإدخال الغسيل.
قالها نافخا صدره كطاووس، وقهقه ضاحكا ثم انصرف إلى بيته.
ظل سليمان لا يفتأ يهمس لجيرانه، ويوصي أطفالهم كذلك(إنه مصاب، هذا مؤكد، لا تقتربوا منه، حافظوا على أنفسكم، وإذا نادتكم والدته لشراء شيء من البقالة، لا تفعلوا، إنه فيروس خطير ومعد).
مر يومان أو ثلاثة، وجيران الحي يتهامسون، متعطشين للخبر اليقين، ومترقبين باب مجيد، هل يفتح، هل يخرج منه أحد، أو يدخل إليه أحد، لا شيء من هذا كله.
في الليل تواصل الأنين، وفتحت النوافذ هذه المرة، وسمع الجيران سعال مجيد المتواصل، لا أحد اتصل بمجيد، لا أحد اطمأن عليه أيضا.
في الصباح توجه سليمان نحو البقالة مجددا، و مجددا كان ينقل تحذيراته متقمصا دور المحقق كونان أو شرلوك هولمز.
- لقد زارت بيت مجيد لجنة طبية هذا الصباح، ودار بينهم وبين والدته حوار طويل، لقد سمعت زوجتي هذا الحوار كله، أنا كنت نائما هذا الصباح، لم أنم البارحة، كان دوري بالحراسة، لقد لازمت النافذة طيلة الليل، وحين خلدت إلى النوم، أوصيت زوجتي أن تأخذ مكاني، الأمر خطير، ولا يحتمل التهاون.
احتار الجيران مجددا، نظر بعضهم إلى بعض وحوقلوا متأسفين ومتحسرين لا على مجيد، ولكن لأنهم لا يعلمون الخبر اليقين بعد.
طوال ثلاثة أيام وسليمان يمشي منتشيا بين الجيران، كما لو كان قد اكتشف اكتشافا علميا، كان يمشي بين الناس بثقة المحقق، يهمز ويلمز، ويغتاب صديقه، هكذا نحن دائما، لا تتم جلساتنا من دون أشخاص نضعهم فوق الطاولة، نقوم بتشريحهم في أي مناسبة، ثم نعانقهم بأيد تقطر بالدماء.
مرت ثلاثة أسابيع كاملة، تعافى مجيد، وصار يذهب بسيارته لاقتناء حاجاته من سوق بعيد...
أما سليمان وفي أحد الصباحات، توجه إلى المستشفى، حمى شديدة وفشل وإعياء، وسعال متواصل حرمه النوم.
أجريت له التحاليل اللازمة، وطلب منه العودة إلى منزله ريثما يتحققون النتائج.
ظهرت نتيجة الفحص وكانت إيجابية، سليمان مصاب بالفيروس، تم جلب سيارة إسعاف، وأخذوه إلى مستشفى بعيد، على مرأى ومسمع من الجيران.
أما أسرته فقاموا بالوصاية عليهم ومنعهم من التنقل أو الخروج.
فكان باب بيته مغلقا لا يدخل ولا يخرج منه أحد.
أما شرفة منزله فقد وضعت فيها زوجته، ثيابه وشراشف السرير والسجاد، وبقيت معلقة هناك أشبه براية بيضاء حملها جندي مهزوم معلنا استسلامه.
#خربشات_بقلمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق