لماذا أكره مسلك الانتقاد؟!
قيل؛ ومن أسباب الشقاق عدم زيارة العالم وترك مذاكرته فيما وقع فيه من الخطأ.
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله:
”وكم من عالم أخطأ في مسألة فلم يهتم إخوانه من العلماء بأن يزوروه ويذاكروه فيها، أو يكاتبوه في شأنها، بل غاية ما يصنع أحدهم أن ينشر اعتراضه في مجلة أو رسالة يُشنِّع على ذلك العالم ويُجَهّله، أو يبدّعه ويكفّره، فتكون النتيجة عكس المطلوب.
وعلماء الدين أحوج الناس إلى التواصل والتعاون خصوصًا في العصر الذي تفشّى فيه وباء الإلحاد، وقلَّت الرغبة في العلوم الدينية، بل كادت تعم النُّفْرة عنها، واستغنى كلّ أحد برأيه.
فأمّا الدواء المعروف الآن، وهو التكفير والتضليل، فإنه لا يزيد الداء إلا إعضالاً، ومثله مثل رجل ظهر ببعض أصابعه برص فقطعه! فظهر البرص بأخرى فقطعها!! فقيل له: حنانيك قبل أن تقطع جميع أعضائك!
اثار المعلمي ج15 ص 422
إن الانتقاد لا جدوى منه، لأنه يضع الإنسان في موضع الدفاع عن النفس، ويدفعه إلى بذل جهده من أجل تبرير تصرفاته، كما ان الانتقاد هو في غاية الخطورة، لأنه يجرح كبرياء الفرد ويؤذي إحساسه بالأهمية ويثير استياءه.
وهذا ما وقفت عليه مؤخرا، فحين تم مهاجمة "فلانة" لدفاعها عن قضايا المرأة كل مرة، اتهمت بالنسوية، وكانت الهجومات ضدها لا ترحم..وكل الآراء كانت متطرفة وحدية..ومع الوقت أصبحت آراء الأخيرة متطرفة وأكثر حدية هي الأخرى...بل صارت نسوية ولم تكن كذلك من قبل.
والمفكر الأديب الذي لم يرحمه الوسط الدعوي أيضا بسبب خلاف علمي..فظهرت لديه دواعي المعاندة أكثر..وسخر قلمه وصفحته للسخرية والاستهزاء والميمز...وتغيرت أخلاقه إلى الأسوء..وكل هذا بسبب الحدية في النقاشات..والانتقاد المباشر...وتجييش الأتباع ضده..مما جرح كبرياءه..ودفعه هذا الأمر لبذل جهده من أجل تبرير تصرفاته.
لنكولن الذي قال فيه وزير الحربية«ستانتون» حين قتل: « هنا يرقد أكثر الرؤساء كمالا في العالم»
فما هو سر عظمة لنكولن؟ ونجاحه في التعامل مع الناس وكسب القلوب؟!
كان لنكولن في شبابه كثير الانتقاد للناس، بل لم يكن ينتقد فقط بل كان يبعث برسائل وأسعار تسخر من الناس، وكان يرمي بها في الطرقات العامة حيث يسهل الحصول عليها..
وحتى بعد ان أصبح محاميا متدرجا، كان لينكولن يهاجم مناوئيه بشكل صريح، وفي رسائل كانت تنشر في الصحف، وكا يقدم على ذلك العمل باستمرار..-(تذكرت في هذا بعض المتصدرين الذين يقدمون مواد مرئية لنقد هذا وذاك، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا).
ولم يتوقف عن هذا المسلك حتى حدثت له حادثة مهينة، فقد انتقد رجل سياسة ايرلندي، لدرجة جعلت المدينة كلها تعج بالضحك عليه، فتوعده الأخير ودعاه إلى مبارزة علنية أمام الناس، وقد كانت هذه العادة منتشرة يومها..
لنكولن لم يكن يريد القتال، ولم يكن مهيأ له..لكنه حضر الموعد لأن تخلفه كان سيعني أنه خاف وجَبُن..
لكن شهود المبارزة أوقفوا القتال، وتلك كانت أفضع حادثة في حياة لنكولن، وقد علمته درسا في التعامل مع الناس لا يقدر بثمن.
فهو لم يعد يكتب رسائل مهينة، كما لم يعد إلى انتقاد أحد مهما يكن الدافع لذلك.
وصار بعد ذلك أرحم بالناس..وكان يردد قوله المأثور« لا تدينوا لئلا تدانوا»
وحين كانت زوجته وغيرها بتحدثون بفظاظة عن الجنوبيين، كان لنكولن يجيب« لا تنتقدوهم، فنحن كنا سنفعل مثلهم لو عشنا في ظروفهم».
يقول كارليل:« الرجل العظيم يظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها الرجال الوضيعين».
فبدلا من أن نتهم الناس، لنحاول أن نفهمهم..
ذلك أوفر ربحا وإثارة من الانتقاد، كما أن ذلك يولد التعاطف والرحمة.
يقول أحدهم:« إن الله حكم على نفسه لا يحاكم الإنسان إلا في نهاية أيامه» فلم نحاكمه أنا وأنت؟
ويقول آخر: أعتبر أن مقدرتي على إثارة الحماس بين الناس هي أعز ما أملك، وأن أفضل وسيلة لتنمية أجود ما في داخل الانسان هي التشجيع والتقدير.
الرجل الحكيم يجب أن يكون ماهرا في نزع أشواك العصبية والانغلاق والتحزب.
وأسلافنا كانوا بارعين في نبذ الفرقة ، فإذا قلبت نظرك في صفحات التاريخ, ستجد أن العظماء كانوا دائما بارعين في بناء الجسور التي توصلهم لغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق