الجمعة، 26 يونيو 2020

التلميذة المدللة

التلميذة المدللة:


لا شك أن الجميع يذكر تلك التلميذة الجميلة المدللة أيام الابتدائي، تلك الفتاة التي ترتدي أبهى الثياب، ذات الغرة المنسدلة، وشعرها الحريري المزين بربطات شعر فاخرة، تلك الفتاة التي تحضر معها دوما سندويشات فاخرة، وعلب عصير، وحلوى تسيل لعاب كل من حولها، والتي كانت السيارة تقلها لباب المدرسة، فلا تلفحها الشمس، ولا تؤذي بشرتها.
تلك الفتاة التي يتنافس الأطفال الذكور على التقرب منها، بينما تتملقها الإناث ويأتمرن بأمرها.
أما المعلمون والمعلمات فيفضلونها على الجميع، ويشيدون بها في المحافل، ويتغاضون عن أخطائها وهفواتها.
الجميع كان يعتبرها الفتاة السعيدة والمحظوظة رقم واحد.
ويجزم جميع من عرفها  لو أن الحظ كان مقسما على العالم إلى نصفين، فحتما كانت ستحوز النصف بجدارة.

حسنا سأخبركم أن تلكم الفتاة كانت أنا.
هل كنت وأنا طفلة، أعلم حينها أنني كنت محظوظة، أو على الأقل هل كنت أعلم أن نظرة الآخرين عني كانت كذلك؟
سأخبركم الحقيقة، لا، لم أكن أعلم، وكنت أعتبرني أتعس خلق الله.
صحيح أنني كنت أتمتع برعاية وحب كبيرين من قبل والداي، لكنه كان حبا مبالغا به، لدرجة كانت تخنقني وتسبب لي الكآبة وأنا طفلة صغيرة.
فأبي كان يحضر لنا القصص والكتب، ويعزلنا عن العالم الخارجي، ولا يسمح لنا بمخالطة أولاد الجيران-غير المؤدبين- حسب اعتقاده.

في حين كان الأطفال يعيشون حياتهم بالطول والعرض ويجربون كافة الأشياء، أبي لم يكن يسمح بأن تتسخ ثيابنا، لذلك كان يحدد لنا طريقة اللعب فلا جري، ولا عراك، ولا لعب بالتراب أو الحصى.
ومن خوفه علينا كان يقوم بتوصيلنا إلى باب المدرسة بالسيارة، ولطالما كرهت السيارة وأيامها، وتمنيت أن تتعطل يوما لأتمتع بالمشي رفقة البنات إلى مدرستي.
أتذكر أنه نسي يوما أن يعيدنا إلى البيت، فبقيت وحدي أنتظر أمام باب المدرسة لأنني لا أعرف طريق العودة، ولا تسل عن الخوف والرعب اللذان عشتهما تلك اللحظة، حتى تفطن مدير المدرسة وأخذ بيدي إلى منزلنا وسط أنهار من دموعي وشهقاتي.

كان والدي معلما، وكان هذا السبب كافيا للتنمر علي، فكانوا يعزون تفوقي لأشياء كثيرة( محاباة المعلم لأنه صديق والدها، والدها معلم فهو يقوم بتدريسها، والدها يخبرها مواضيع الفروض والاختبارات ....ووو)، وكل هذا كان يسبب لي الغضب والحزن والاكتئاب، وتمني الموت أحيانا.

أما البنات فكن يتملقنني لسببين فقط، الرغبة في الحصول على علكة أو قطعة حلوى، أو الرغبة في الغش أيام الامتحانات، لكن عدا عن ذلك فقد كنت وحيدة تماما، تغار مني الفتيات، ولا يشركنني في مختلف الألعاب، اضافة إلى السخرية الدائمة، والتنمر المصاحب لها، ناهيك عن استعمالهن لألفاظ الفحش والسباب في معاركنا الكلامية، والتي لم أكن أفلح في الرد عليها سوى بعيون تختزن الكثير من الدموع، عيون كانت تفضحني لأنها كانت توحي لهن بضعفي، وتثبت دوما أنهن كسبن المعركة ونجحن في إذلالي.

وأنا طفلة كنت أحلم بشيء واحد فقط، أن أكون فتاة عادية، تلعب كما يحلو لها، يحق لها أن توسخ ثوبها من دون توبيخ، وأن تذهب إلى المدرسة مشيا على الأقدام.
كنت أعشق بشدة سلوك الأطفال الذين يحق لهم الخوض بأقدامهم في برك الماء، بينما لا يحق لي أنا فعل ذلك.
كانت أرجى الأماني عندي وقتها المشي تحت زخات المطر، وأن أخوض برجلي في الطين كما يفعل باقي الأطفال، ولا عجب أنها أمنية لا تزال مختزنة بقلبي إلى يومنا هذا.
فهل سيكون في حياتي نسخة ثانية من المعتمد بن عباد؟!

#شمس_الهمة


تفاخر وتباهي


تفاخر وتباهي:(عن اليوتيوبرز وثقافة الإستهلاك)


المتابع لليوتيوبرز الجزائريات، يكاد يلاحظ نسخة طبق الأصل عن المحتوى المقدم(طبخات، مشتريات الأواني، ديكور، مكياج) وهذا لا يعاب كون المرأة بطبيعتها تميل إلى هاته الأمور بالفطرة، لكن أن يطغى جانب المظاهر والتفاخر وتغذية البطون وتجميل الشكل الخارجي، على جانب الاعتناء بدواخلنا، وتهذيبها، والاعتناء بعقولنا وتغذيتها فهذا مما يعاب على الجميع وبشدة.

فالأولى أن تهتم هؤلاء كونهن (مؤثرات)، بجانب تغذية عقل الفتاة وتثقيفها، وتنمية مداركها، وتوعيتها دينيا، وكذا توعيتها بحقوقها، ويا حبذا لو نشاهد تلكم اليوتيوبرز يعرضن مشترياتهن من الكتب بدل مشترياتهن من الأواني، ورصيدهن المعرفي والشرعي بدل الاقتصار على التزويق الخارجي.

وبالرغم من محدودية دخل الفرد الجزائري، إلا أنك تجد حربا طاحنة وتسابقا محموما بين اليوتيوبرز حول تصوير موائد الإفطار، وعرض أفخم الأكلات.
وينقسم الرأي العام حول هذا إلى فئتين:

فئة ترى أن ذلك التصوير للطبخات والأكلات مذموم ويتسبب بأذى نفسي للفقير.
وفئة أخرى ترى أن تلك الصور بريئة ومن قبيل تبادل الوصفات والأفكار بين البنات بغرض التعلم والتطوير.

لكن الملاحظ مؤخرا، أن الأمر زاد عن الحد، ليس بسبب الوصفات وحدها، ولكن بسبب ثقافة الأطقم ومشتريات الأواني التي باتت موضة هاته الأيام، فالأطقم التي تعرض فوق مائدة واحدة من دون احتساب لثمن الأكلات المعروضة، تساوي قيمتها ثروة.

فمن الأطقم التركية المتعددة الأشكال و الألوان، إلى الأواني النحاسية والذهبية الفخمة، إلى أطقم القهوة والشاي والسهرة وووو، بحيث قد تساوي قيمة طقم واحد مرتبا كاملا لمواطن جزائري بسيط.

قد يقول قائل أن الناس حرة فيما تعرض أو تقتني وحرة في كيفية إنفاق أموالها، وأن الناس من قديم الزمان تتفاوت، ومائدة الغني لا تشبه حتما مائدة الفقير، ومن حق الغني الإمتاع والاستمتاع والتباهي.
وأن محاولتكم لتسوية الغني بالفقير، هي التي جعلت الفقير يحسد و يتحسس وينافس ويرهق نفسه في سباق غير متكافئ مع الغني، ويريد أن يتساوى معه شكلا ومظهرا وهذا ما يسميه دوستويفسكي بمتلازمة"زهو الفقراء".
وهنا يشعر الأغنياء بالتشابه واكتساب صفة العمومية، وبانعدام الأهمية، فتبادر الشركات الاقتصادية، لابتكار أشياء وسلع جديدة وباهظة، فيصبح عامة الناس أمام موضة جديدة وتحد جديد يثقل كاهلهم، وينطلقون ثانية كالخراف متتبعين خطى الأثرياء، وبالتالي أسر جديد وعبودية جديدة.

ومع نسبية صحة هذا الطرح، إلا أن المتابع لهؤلاء اليوتيوبرز يدرك جيدا أننا كمجتمع عربي متخلف نعاني كلنا متلازمة (زهو الفقراء).

في كتاب علي شريعتي "مسؤولية المثقف" ذكر الكاتب أن النساء العربيات يرتدين ملابس أفخم من النساء الغربيات، وأن العمارات الحديثة بدول كالبرازيل والكويت أكثر فخامة وأسطورية بحيث قد لا نجد لها نظائر في أوربا كلها.

وذلك بسبب مركب عقدة النقص الذي نعاني منه في مجتمعاتنا المتخلفة، ولا مفر أن تفضي عقدة التأخر إلى الإفراط، الإفراط في التقدمية وإظهار التقدم.
من أين تحصل اليوتيوبرز على الأموال؟!

إحدى اليوتيوبرز صرحت مرة بعد سؤال إحدى المتابعات عن ثمن الخواتم التي وضعتها في حفلة زفاف أختها فقالت أنها (بلاكيور) بمعنى ذهب مزيف!! وأنها متوسطة الحال، وليس لها من المال ما يمكنها من اقتناء الذهب!!
مع العلم أن ما تعرضه هذه الأخيرة يوحي بأنها من الأثرياء.
يوتيوبرز أخرى صرحت أن المنزل الذي تسكنه بالكراء وليس ملكا، وأنهم متوسطو الحال، في حين أنها تصور كل يوم طقما جديدا فاخرا!!
فمن أين تأتي هؤلاء بكل تلكم الأواني والأموال؟!

هنالك فيلم أمريكي فكرته إبداعية ومؤثرة وواقعية, وهادفة رغم بساطتها وسهولة لمسها في الحياة العامة.يروي الفيلم انتقال عائلة مثالية إلى حي راق, وسط جيران ميسورين، حيث أم جميلة الشكل، وأب وسيم ورشيق, مع ابنيهما (شاب وفتاة في الثانوية) ، وتبدأ حكاية التقرب من الجيران واستعراض الساعات الفاخرة والسيارات الرياضية وإقامة الحفلات في المنزل، ويبدأ الجيران في تقليد العائلة الجديدة، فيكدسون الكماليات في بيوتهم من مضارب التنس والغولف الفاخرة إلى تلفزيونات عملاقة، وآلات جز عشب إلكترونية، ومساحيق تعيد الشباب وأحذية رياضية جذابة.. وهكذا.التقليد والمفاخرة دفع بعض الجيران لمحاكاة جيرانهم، ثم استيقظ الجيران ذات صباح على خبر انتحار أحد الجيران رغبة في التخلص من ثقل الديون.بعد هذه الفاجعة الأليمة  اكتشف الجيران حقيقة العائلة الجديدة, والتي لم تكن عائلة حقيقية بل مجرد أفراد "يمثلون", بحيث تقوم مؤسسة تجارية بزرع عائلات مزيفة مهمتها الاستقرار المؤقت في أحياء صغيرة وثرية، ومنح انطباع السعادة الكاملة لمن حولهم بفضل الأدوات الإلكترونية والتحف الثمينة والسيارات الفاخرة التي يملكونها، بهدف فتح شهية جيرانهم لاقتناء الأشياء نفسها.
قد يغفل الكثير منا أن هؤلاء اليوتيوبرز الذين يروجون لثقافة استهلاكية لا نجني منها نحن سوى خراب البيوت، تستفيد منها صاحبة القناة من خلال أموال شركة اليوتيوب، أو من خلال شركة أو محل أواني مقابل الترويج لسلعته، فقد لاحظت أكثر من مرة أن صاحبات تلكم القنوات يعرضن الأواني بشكل دوري، ويذكرن اسم المحل الذي اقتنوا منه هذه الأواني، أو اسم الموقع أو الشركة على الإنترنت، وبالتالي هي شراكة بين المنتج وصاحبة القناة لدفعنا لمزيد من الاستهلاك.

هل هنالك آثار سلبية تترتب على ذلك؟!
لا شك أن هنالك آثارا سلبية كثيرة تترتب على ذلك، مقابل نتف ضئيلة جدا من الاستفادة، فهذه النماذج المعروضة تمارس على المرأة ضغطا عصبيا واكتئابا وتدفعها لمقارنة نفسها بالأخريات، وبالتالي إحساسا بالظلم والدونية التي تؤدي بدورها لضغط على الزوج ومطالبته فوق ما يطيق وتتفاقم المشكلات بين الزوجين.
بالإضافة لمشاكل أخرى كثيرة فما يعرض من أطباق ومأكولات يتطلب جيشا من الخدم أو المعاونين لإنجازه، وجيشا آخر لتنظيف ساحة المطبخ بعد الانتهاء.

في حين لا يتناول الواحد منا سوى حبة بوراك وغرفية حريرة، أتساءل ما الذي يدفع بالنساء للتسبب بشقائنا؟!

وإذا كانت قدرات النساء وصحتهن الجسدية تتفاوت، وكذا تقسيمهن لأوقاتهن وأعبائهن، فقد تضيع إحداهن صحتها البدنية وأوقاتها في إعداد الكثير من الوجبات، بينما تجد نفسها آخر اليوم منهكة، وبدون قدرة على القيام، والطاعات.
في حين تستثمر أخرى أوقاتها في الطاعات والعبادات بما يشق عليها طول الوقوف في المطبخ وذلك لأنها قضت ليلها في طول القيام.

‏المرأة هي المتسبب الرئيس في هذا، ورغم ذلك فأكثر الضرر من جراء ذلك التفاخر سيكون من نصيب المرأة، لذا أقول دوما أن المرأة أكثر من يظلم المرأة.

‏ففي الزمن الماضي كان الجزائريون يجتمعون حول صحن واحد، ومع التقدم والعصرنة، صار لكل فرد صحنه الخاص، والآن تطور الأمر ليصبح لكل فرد ثلاثة صحون لوحده، وإذا كان متوسط العائلات مكونا من أربعة أفراد، فيمكنكم احتساب عدد الصحون التي سيقع عبء تنظيفها على المرأة وحدها.
‏استوردنا الفردانية وإتيكيت المطبخ والتقدمية الغربية، غير أننا ألغينا أن الفردانية تتطلب أن يقوم كل فرد بتنظيف صحنه وملعقته وشوكته وكأسه وووو.
‏لذا نحن نعيش بمظاهر غربية، وقيم جاهلية، فعوض أن تعلم المرأة أطفالها, وزوجها أن يقوم كل فرد بتنظيف صحنه، تتحمل هي كافة الأعباء.
‏مع أن ذلك ليس من ديننا، فقد ورد عن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ وَيَرْفَعُ دَلْوَهُ وَيَعْلِفُ شَاتَهُ وَيَقُمُّ بَيْتَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ }.

تحية لأم وليد:
ومن هذا المنبر أوجه تحية خاصة لأروع يوتيوبر جزائرية، تعلمنا منها الكثير رغم أنها تعرض كل طبخاتها في صحن أبيض وحيد من نوع (الأكوبال) طيلة ما يقارب خمس سنوات أو أكثر، وما عابها هذا وما انتقص منها.

فما الضير أن تصوري لنا أطباقك في طقم واحد طيلة الشهر الكريم؟!
وأن يكون لك طقم آخر جميل تحتفظين به لضيوف الغفلة.
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِأَهْلِهِ، وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ، وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ. رواه مسلم
وكذا ينطبق الأمر على الأواني والأطقم.

وأتساءل أين ستكدسين كل تلك الأطقم، وكم مرة سيتوجب عليك تنظيفها في السنة؟

ختاما:
حيث وجدت البساطة وجد الرقي.
وما أجمل الاهتداء بهدي نبينا، صلى الله عليه وسلم الذي قال:
((فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)).

#شمس_الهمة



أين اختفت الصالحات؟


أين اختفت الصالحات؟!
"قصة قصيرة"
بقلم: شمس الهمة
جميع الحقوق محفوظة

أين اختفت الصالحات؟!
لبث مدة وهو ملتصق بباب الملتزم، أخذ يبكي وينشج ويلهج بالدعاء(( يا رب، أنا في كرب شديد، وأنت أعلم بحالي، وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ، يا رب ارزقني الزوجة الصالحة،
اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، اقض حاجتي، وأنس وحدتي، وفرج كربتي، وأجعل لي رفيقة صالحة، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، فأنت بي بصير يا مجيب المضطر اذا دعاك، احلل عقدتي وآمن روعتي، وفرج كربتي،
  وهب لي من لدنك زوجة صالحة، واجعل بيننا المودة والرحمة والسكن، إنك على كل شيء قدير..))
- ايه يا عم هو انت حتبات هناك ولا ايه؟!
- نام، نام، وأنا كَ غا نجيبلك الغطا!!
استفاق أخيرا من غيبوبته على كلام الحجيج ونداءهم المستمر له، مسح دموعه وانسل عائدا بين جموع المعتمرين..
"نور الدين موسى" شاب جزائري في أواسط الثلاثين، طويل القامة، نحيل الجسم، بعيون سوداء تدوران في محجريهما دورة وحشية، كأنما رعبته الحياة مذ كان جنينا في بطن أمه.
عاد إلى الفندق وقد أظلم وجهه وتلبد، كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ، وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار...
نظر في المرآة، وجه شاحب، رسم عليه الزمن خطوط الهم والأرق، مرر أصابعه فوق شعر رأسه، وأخذ يكلم نفسه أمام المرآة:
- شعيرات بيضاء بدأت في فرض حصارها فوق رأسي، تزداد بمعدل مرعب لا يتناسب وسنوات عمري، وكأنها تعمل في سرية طوال الوقت، على تجنيد ما يجاورها من شعيرات سوداء خائنة لوطنها..
فتح فمه ونزع طقم أسنانه العلوي، تأمله برهة ثم زفر:
- آه...الزمن... أخذ مني كل شيء جميل، صرت وأنا في هذا السن عجوزا في مقتبل العمر
استلقى على سريره وأخذ يتفكر "36 سنة ولا أزال أعزبا، وأنا الذي تمنيت بناء أسرة في ريعان الشباب!!"
ترى هل سيستجيب لي الله هذه المرة؟!
عمرتين وقيام الليل، ولا أزال على هاته الحال!!
رباه، لم أعد أقوى على مزيد من الصبر، فتن كقطع الليل المظلم، ونساء كاسيات عاريات، اللهم يا رب أقر عيني وأرح قلبي"
عادت به الذاكرة إلى الوراء قليلا، ومر من أمامه شريط حياته، وعديد خيباته في البحث عن الزوجة الصالحة:
منذ كان عمري 22 عاما، وأنا أبحث عن الزوجة الصالحة،
أشعر بالملل والعناء، وتعبت من عدم توفيقي في هذا الأمر، أخاف أن أتنازل عن الشروط التي أريدها في من أريد الارتباط بها بسبب ضغوط الأهل, والمجتمع ، وتقدم عمري، وبسبب الشهوة والفتن التي تحيط بنا من كل مكان...
قضية البحث عن زوجة صالحة في هذا الزمان ليست بالشيء السهل إلا على من سهله الله له، فكيف أجد زوجة صالحة ترضيني وكيف  الصبر على كل هذه الضغوط حتى أجد الزوجة الصالحة؟.
**************
- أمي، قلت لك مرارا أنني لن أتزوج فتاة شاهدتها ترقص في عرس فلانة أو علانة..
- ولكن، يا ولدي ، من أين سآتيك بالفتاة التي ترغب، وأنا لا أذهب إلى أي مكان سوى بعض الأعراس مرة أو مرتين في السنة؟!
اسأل أصدقائك لربما كانت لهن أخوات متدينات، أو حتى أخوات زوجاتهن!!
- لقد فعلت يا أمي، أصدقاء وأي أصدقاء؟!
أصدقائي لا يفكرون سوى بأنفسهم، لا أحد يهتم لأحد اليوم، ولا أحد يفكر فيك.
- ولكن ما الحل ؟!
أنت لا تبحث أبدا، هل ستسقط عليك العروس من السماء؟!
- وما أدراك أنني لم أبحث يا أمي، لا أثر للمرأة الصالحة في هذا الزمان، كلهن كاسيات عاريات
- بني، لا تقل هذا الكلام، النساء الصالحات موجودات، ولكنهن كالدر المكنون محفوظات...ابحث جيدا وستجد بإذن الله.
- أين سأجدهن يا أمي، وكأن الأرض ابتلعتهن، لا أثر لهن في أي مكان أقصده.
- الزم حوانيت النساء، ستجد حتما فتاة صالحة تود شراء بعض المستلزمات، ربما خياطة ، أو ملابس نسائية، أو غير ذلك.
- وهل سيخفى علي أمر كهذا يا أمه، خمس سنوات من لزوم تلك الدكاكين بلا جدوى، لا أدري أين تختفي الصالحات وأين يمكنني ايجادهن؟!
ولماذا ؟!
- جرب الجامعات، ستجد هنالك فتيات متعلمات وبقمة الأخلاق.
- لا أريدها جامعية يا أماه، أتزوجها اليوم وغدا تشترط علي العمل لأنها كرهت من المنزل، هذا بالنسبة لمن درست بجامعة قريبة منها لا تضطرها للمبيت في السكن الجامعي، السفر بدون محرم حرام، ولو كانت فتاة صالحة للزمت البيت،( لن أتزوج فتاة السكن الجامعي، حتى لو انقرضت كل نساء حواء من على وجه الأرض، وبقيت هي فقط) .
اضافة الى أن الاختلاط حرام، ما أدراني أن من أختارها ليست على علاقة مع أحد زملائها!!
************
أفاق من شروده على صوت آذان العشاء، توضأ وصلى في مسجد قريب، تناول عشاءه، ثم عاد إلى الحرم، عازما على إحياء الليل في الابتهال والدعاء.
استمر على ذلك الحال طويلا، يبكي ويشهق، ويتوسل إلى الله.
صلى الفجر هنالك أيضا، ثم جلس يستغفر ويتلو الأذكار، توقف هنيهة يسترجع أنفاسه، وأخذ يكلم نفسه:
ترى هل سيستجيب الله لي هذه المرة، أريد إشارة تطمئن قلبي، إشارة واحدة يا الله.
ثم فتح المصحف، فوجد أمامه الآية الكريمة:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. هود (112).
ارتعد قلبه، وانتفض جسده، ثم ما لبث أن تناسى الأمر، إنه مجرد صدفة.
عاد إلى غرفته بالفندق شغل التلفاز، وأطفأ الأضواء لينام على صوت القرآن الكريم، اختار قناة المجد للقرآن، فكانت الصدمة!!
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }هود(112)
نفس الآية، ونفس السورة، إنها الإشارة التي طلبتها.
لكنها مبهمة يا الله، ماذا أفعل كي ترضى؟!
مسح العرق من جبينه، وازدرد كأسا من الماء بعد أن جف ريقه، ثم استسلم للنوم.
استيقظ على صوت آذان الظهر، وتوجه إلى صنبور المياه، توضأ وضوئه للصلاة، وأسرع مهرولا إلى مسجد قريب.
أنهى الصلاة، ثم توجه إلى مطعم قريب، طلب وجبة افطار، ثم شرد مع نفسه: "حلم غريب، ترى ما معنى تلك الآيات التي تكررت في منامي؟!
وماذا فعلت؟!
ومن ظلمت؟!
أم تراها فقط من حديث النفس، فأنا كما يبدو مرهق جدا.
الآيات بعيدة عن الإشارات التي طلبتها.
الآية الأولى كانت:
﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9].
والآية الثانية:
{ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (123)سورة النساء.
يا رب فهمني وعلمني، أكاد أجن.
************
أتم عمرته، وعاد إلى الوطن، نفس الحيرة، ونفس الضياع.
لا يزال في رحلة بحث مضنية عن الزوجة الصالحة.
مر شهران منذ أدائه للعمرة، لكن يومياته على حالها، بحث هنا وهناك، سؤال هنا وهناك، ونقاشات لا تنتهي مع والدته.
ذات مساء تقدمت أم نور الدين نحو غرفة ابنها، طرقت الباب، فأذن لها بالدخول.
ابتسامة عريضة تعلو محياها، وعيناها تشع ببريق ظاهر
- أرى الفرح في عينيك يا أمة، كيف كان يومك عند الطبيبة، وما سر هذه السعادة؟!
- دعك مني الآن، فأنا بخير، حالك أنت من لا تسر
- هل أفهم من كلامك أن الموضوع يعنيني يا أماه؟!
هل وجدت لي عروسة لدى زيارتك تلك الطبيبة؟!
- تقريبا، ولكن ليس بعد
وأنا في العيادة سألت لك النسوة هناك، فأرشدنني إلى البحث في المدارس القرآنية، أو في المساجد فهذا الصنف لا يظهر إلا هناك يا بني...عقب العيادة مر بي أبوك من جانب مسجد "الفاروق"،  كان وقت الظهر فرأيت منظرا جميلا من فتيات في عمر الزهور يرتدن ذلك المسجد، ليس مثل مسجد حينا، العجائز فقط من يسمح لهن بالصلاة ، بينما تحبس البنات مثل أختك " منار" تماما...
- فكرة جيدة جدا يا أمي، كيف غابت عن بالي؟!
ولكن -----
- ولكن ماذا يابني؟!
- من سيتكلف بمهمة البحث والاستقصاء، وأبي يغار عليك، و يتشدد عليك بمنعك من الصلاة في المسجد؟!
- قم أنت بهذه المهمة يا بني، الزم حائط المسجد ، وترصد دخول البنات أو خروجهن، فربما وقعت عينك على من تسر قلبك.
- ماذا تقولين يا أماه؟!
اترك الصلاة، وأطلق بصري هنا وهناك على بنات الناس
هذا سلوك الرعاع؟!
- ولكن قصدك شريف وطيب!! أنت لست مثل هؤلاء.
- لا...لا...يا أماه...لن يحدث هذا الأمر
"منار" هي من ستذهب إلى المسجد كل صلاة، وهنالك تلتقي بالفتيات الصالحات، أبي لن يسمح لك ، لكنه سيسمح لمنار.
- منار؟! ولكنك أنت من كان يمنعها عن المساجد ودروس القرآن!!
- الوضع اختلف الآن يا أمي، وهي فرصة لتراها الأخوات أيضا...فلربما اصطدنا عصفورين بحجر واحد، من يدري ؟!
ربما يتزوج كلينا بعد كل هذه السنين؟!
************
خطى نور الدين من فوره، بخطوات مسرعة نحو المطبخ أين تقبع "منار"، ومن وراءه أم مخدوعة كأنها في يد ابنها كرة الخيط، كلما جذب منها مدت له مدا...
ولجا إلى المطبخ، فوجدا "منار" هناك.
شابة في أواخر الثلاثينات، لها وجه رغم جماله إلا أن عليه ذبول الدنيا كلها ، وتدور في هذا الوجه عينان غائرتان، تائهتان، تنبئ أن دمها قد وضع من جسمها في ثلاجة.
"منار" ذات مستوى تعليمي متواضع، فأخوها نور الدين لم يسمح لها بارتياد الثانوية، ولا حتى جامع أو مدرسة قرآنية...
تركت للحزن والفراغ يلتهم شبابها التهاما...
كانت فارغة من الداخل، واهتماماتها لا تتعد حائط المطبخ، صار قلبها كتفاحة متعفنة لا تغري أحدا...
امرأة بلا هدف، أو رسالة، خاوية من كل شيء، عدا السعرات الحرارية التي تحشو بها معدتها بحجة الملل...
كانت تمارس حرفة الانتظار، كي تبدأ حياتها فعليا ، وتتحقق كل أحلامها المؤجلة لما بعد الزواج..
فصارت تنتظر الزواج بلهفة السجين لخبر الافراج عنه...
وبينما هي عاطلة عن الحياة، وتمارس هذ الغباء، كان نور الدين يعيش حياته ويستمتع بشبابه.
"منار" زورق انساني صغير، ترك يتكفأ على صدمات الأيدي والصدف والأقدار...
كانت تكابد لتظل على قيد الانسانية، كانت محبوسة في زاوية مظلمة، تتلمس نقاط النور، وتبحث عن الدفء والضياء،  كانت تناضل حتى لا تتعفن روحها هناك.
**************
تنحنح نور الدين، وابتسم ابتسامة تنم عن الحماس، ثم عرض الفكرة على منار...
كانت منار تستمع وتشرد مع كل كلمة منه تقال، فقد اعتادت على عدم مقاطعته ، ولم تكن لتنخرط في نقاش مع أسماء لا تشبه الأسماء التي علمها الله لآدم.
استمرت بتحريك الحساء وأحست بمرارة الحياة بأسرها تختلط مع ذلك الطعام، ومع بخار الحساء كانت تتصاعد من روحها نفثات من الإعياء والضيق..
عاد بها الزمن إلى الوراء، واستولت على تفكيرها تلك الذكريات...
****************
1 سأذهب لزيارة بنات عمي، فقد اشتقت لهن يا أماه.
2 أخوك نور الدين لن يسمح بذلك، بيوت أعمامك وأخوالك كلها صبيان، وأخوك شديد الغيرة
3 ولكن، يا أمي أنا لا ألتقي أبنائهم مذ تحجبت، وهم يعرفون ذلك جيدا...
4 تعرفين أخاك، سيقول بأنك صغيرة، وربما التقيتهم ونحن لا نعلم، والواجب درء المفاسد
5 ولكنني لا أزورهم إلا معك يا أمي، هذا معناه أنه لا يثق بك أيضا...لقد مللت وضاقت علي نفسي، كل شيء عنده معلل بسد الذرائع، واغلاق باب الفتن...حتى الجيران لا نزورهم، لأن لهم أبناء من الذكور... ومهنة الخياطة توقفت عن ممارستها بسبب احتياجي المُلِحّ لمستلزمات الخياطة ، وهو لا يجيد ابتياع مواصفات ما أريد، ولا يسمح لي بمرافقته لشرائها بنفسي ، بحجة أن أصحاب الدكاكين رجال شهوانيون...
أتساءل هل نحن اجتماعيون؟! ولماذا لا نسكن أحد الكهوف أو احدى الجزر المعزولة سدا للذرائع!!
دخلت منار غرفتها تجر أذيال الخيبة، وقد استبد بها الحزن، واستولى عليها القنوط واليأس... ثم ما لبثت أن اهتدت لفكرة ضمنت معها أن أخاها نور الدين لن يعارضها هذه المرة...وذهبت إليه تحلق مثل فراشة في حقل جميل...
6 نور الدين ، أحس بالوحدة والاختناق، واللاجدوى، أريد
ارتياد مدرسة قرآنية.....ما رأيك؟!
7 لن أسمح لك طبعا، فالمدارس القرآنية أصبحت مركزا للمخططات السياسية ، وأخشى عليك مغبة ذلك.
8 طيب، ربما معك حق في هذا، ما رأيك لو أخذتني مرة على مرة لدروس العلم معك ؟!
9 العلم متوفر بالمنازل، كبسة زر وأنت حصلت عليه، اطلبي ما تشائين وسوف أحضر لك مختلف الأشرطة والسيديهات….لا داعي لخروجك من البيت...
10 لا تسمح لي بالذهاب عند الأخوات، ولا صلة الأرحام، طيب ، هل تسمح لي بالصلاة في المسجد؟!
11 صلاة المرأة في بيتها خير
12 ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال :" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"
13 أنت لا تعرفين شيئا، قال أيضا:( وبيوتهن خير لهن)
14 ولكن عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم.فقال بلال والله لنمنعهن. فقال له عبد الله أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت لنمنعهن؟!.
استشاط نور الدين غضبا ، وصب على أخته "منار" وابلا من الشتائم لم يتلقه "دونالد ترامب" من المسلمين ثم قال:
15 تتفيقهين، وتهرفين بما لا تعرفين، أكرمك الله ببيت يأويك ويسترك ، وتريدين التفلت والانسلاخ؟!
هل تنكرين أن بيتك هو جنتك؟!
الضوابط التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم لذهاب المرأة للمسجد غائبة في زمننا هذا ، من أمن الفتنة ووجوب بعد مكان الرجال عن النساء ، وتريث الرجال في الخروج حتى يخرج النساء ، معظم المساجد مدخل الرجال بمحاذاة مدخل النساء ، ويمكن أن تري جموع المصلين من الرجال يوم العيد حين يخرجون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، لتعرفي أن السم مدسوس في العسل في هذا الزمان .
*********
خرجت منار عن صمتها وشرودها، مسحت بظاهر كفها حبات العرق من على جبهتها، ثم توجهت بكلامها نحو نور الدين:
16 ألم تجد الزوجة الصالحة، لحد الساعة يا نور الدين؟!
17 للأسف، لم أوفق في العثور على فتاة صالحة كما تعلمين.
18 أين بحثت يا نور الدين؟!
19 بحثت في دكاكين الخياطة، وبين الجيران، وبين الأقارب ، والأصدقاء و..و...باختصار كل الأماكن التي من المفروض أن تتواجد فيها الفتيات الصالحات.
لكنني لم أوفق، وكأن الأرض ابتلعتهن، فعملية البحث عن فتاة صالحة هذه الأيام، أشبه بالبحث عن ابرة في كومة قش.
ولكن لماذا تسألين، وأنت تعلمين عني كل ذلك؟!
   أريد تغيير الوجهة الآن، يجب أن ترتادي المسجد بصفة يومية، فذلك سيفيدني ويفيدك حتما...ماذا قلت؟!
نظرت إليه شزرا، وأنفاسها تغلي وتضطرم مثل بركان يوشك على الانفجار، ثم قالت:
20 آلآن ، وقد تشددت بالأمس.
آلآن، وقد بلغت من الكبر عتيا؟!
آلآن، وقد حرمت كل ما أحل الله، بحجة الفتن؟!
آلآن، وقد حطمت زهرة شبابي بتنطعك؟!
صدم نور الدين، وعلا وجهه الذهول، ولأول مرة شعر بالخجل من نفسه فاستطرد يقول بتلعثم:
21 فعلت هذا حبا بك، وخوفا عليك يا منار.
22 الحب لا يبرر ظلمك لي يا نور الدين
ألا تعرف حقا لماذا لم توفق في العثور على الزوجة الصالحة يا نور الدين؟!
23 ما السبب في رأيك؟!
توجهت نحو غرفتها، وأحضرت له كتابا فقال:
24 ما هذا الكتاب يا منار؟!
أصيب نور الدين بصدمة أخرى، يبدو أنه مساء الصدمات اليوم، ثم توجه لها بنظرات مستفهمة وقال:
25 متى كتبت الكتاب؟! ومن سعى لك بطباعته؟!
وما عنوانه؟!
26 دعاء ابنة خالي شجعتني على الكتابة، وقامت بطباعته على نفقاتها الخاصة، لكن ذلك لا يهم الآن، خذه واقرأه، فقد أعددته لمثل هذا اليوم…أما العنوان فقد حجبته، ستعرفه حين تتم القراءة.
بيدين مرتجفتين تصفح نور الدين الكتاب، فقابل ناظريه الإهداء الغريب:
(( حاولتم دفننا، لم تعرفوا أننا بذور))
فتح الصفحة الأخرى على الإهداء الثاني فاذا مكتوب فيه:
“وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم
و أنا لست بماءٍ
أنا من طين السماء
وإذا ضاق إنائي
بنموي يتحطم !”
"أحمد مطر"
توالت الصدمات عليه، وأخذ كل مرة يتصفح ويقرأ فإذ به يجد ما يلي:
مقدمة:
كل فعل عنيف تقابله بالضرورة ردة فعل أعنف...
تزمت الرجل وظلمه للمرأة في الفترات السابقة،
أدى إلى خروجها غير المبرر وتفلتها...
يلزمنا وقت وجهد لإقناع النساء بعدم جدوى ما يفعلن ، وإعادة الميزان الرباني...
أما دعاة الانغلاق فأقول لهم:
يا اخوان لأننا منعنا النساء بيوت الله، لجأن للأضرحة.
ولأننا منعناهم من دروس العلم لدى المشايخ، لجأن لدروس الفنانات والمسلسلات.
ولأننا منعناهم من الفسحة المشروعة، لجأن للأسواق والتسكع في الطرقات..
ولأننا منعناهم التلاقي، غاب التناصح ، وكثر الفساد.
أمتنا ضاعت بين افراط وتفريط
وكردة فعل على تفلت النساء، جنح الشباب المتدين مرة أخرى إلى أسلوب التشدد والتزمت الذي مارسه الأجداد عن جهل من قبل، فهل سنبقى ندور في رحى هذه الدائرة زمنا طويلا؟!
دائرة الفعل العنيف، ورد الفعل له؟!
(( المرأة شريك الرجل في بناء المجتمع، وعندما أمرها الإسلام بالستر وعدم الخضوع بالقول لم يكن يريد حذفها هي، بل أراد حذف النظرة المادية الشهوانية اتجاهها ...
وفي مجتمعنا العربي تمارس علينا دعاية غوبلز ..بحيث يعطونك اختياران أحلاهما مر .. اختر بين المرأة السافرة العارية أو اختر بين المرأة الفتنة التي يجب حذفها (1)....
المرأة أعدت لأدوار عظيمة إن أحسنا تهيئتها لذلك، و إن كانت التربية المستقيمة لها أهم سبل التهيئة فإنها وحدها غير كافية... العلم الصالح من مصادره الطيبة و المعرفة الاجتماعية التي لا تتسنى إلا بالانتماء للمجتمع، يشكلان عاملان هامان الى جانب التربية للتهيئة السليمة للمرأة بعيدا عن كل العقد النفسية ....
المرأة دون الرجل كائن رسالي، لا يعني أن لا رسالة للرجل إنما الدور الرسالي للمرأة أعمق و أهم " المرأة مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الاعراق"... دورها أساس في تنشئة مجتمع سليم من خلال تنشئتها للمصلحين المنشودين لذلك...
هكذا دور ألا يحتاج الى تنشئة نساء أهل لذلك : تنشئة تربوية , علمية ، معرفية ، واجتماعية؟!
للأسف لا يتأتى كل ذلك بحبسها بالبيت، لأنه أصبح من الصعب التفلت من الملهيات فيه، من أشغال يومية، و برامج تلفزيونية تبعدها عن النشأة السليمة ، أضف إلى ذلك صعوبة التعلم بدون معلم معين يساعد بشكل خاص على الانضباط، و تحديد المصادر الأهم لطلب العلم....
صار لزاما علينا الالتفات إلى ذلك، فنحن ننادي بالإصلاح و نفسد أهم حلقة فيه " المرأة".(1)
الماء الراكد فاسد، عكس الماء الجاري..
والمسلم رجلا كان أو امرأة ، لا يعيش على الهامش بمعزل عن العالم...إنما يؤثر ويتأثر ويتفاعل)).
وبالتلاقي يتجدد الايمان، وتتبادل المنافع، وينتشر التنافس على الخيرات، ويعم الصلاح بدل الفساد.
وقد سئل ابن باز عن صلاة المرأة في المسجد فقال:
صلاة المرأة في المسجد
تسأل سائلة وتقول: هل تجوز صلاة المرأة في المسجد وهي مستترة ومحتشمة ولم تمس طيباً ولم تتبرج وهي تريد بذلك وجه الله عز وجل إلا أن زوجها غير راض عنها، أفيدونا أفادكم الله؟
للمرأة أن تصلي في المسجد مع التستر وعدم الطيب، وليس لزوجها منعها من ذلك إذا التزمت بالآداب الشرعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله))[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها))[2] متفق على صحته. فإذا خرجت محتشمة وبدون طيب فلا بأس ولو أن زوجها غير راض للحديثين المذكورين، وإن صلت في بيتها ولم تخرج تطييبا لنفسه وابتعاداً عن أسباب الفتنة فهو أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن))[3].
أما دور المرأة الحقيقي فلا يعلمه من لا يجاوز نظره أرنبة أنفه، إنما يعلمه العلماء الربانيون الأخيار فقد ذكر الإمام الألباني في كتابه ((الرد المفحم فيمن تشدد وألزم)) دور المرأة الحقيقي فقال:[وإني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة، لا يمكن أن يخرج لنا جيلاً من النساء، يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن ، في كل البلاد والأحوال، مع أزواجهن وغيرهم، ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو، يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة، فهل يمكن للنسوة اللاتي ربين على الخوف من الوقوع في المعصية -إذا صلت أو حجت مكشوفة الوجه والكفين- أن يباشرن مثل هذه الأعمال وهن منقبات و متقفزات؟ لا وربي، فإن ذلك مما لا يمكن إلا بالكشف عن وجوههن وأكفهن، وقد ينكشف منهن ما لا يجوز عادة، كما قال تعالى:{إلا ما ظهر منها}، كما سنرى في بعض الأمثلة الشاهدة لما كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم].المرجع/ الرد المفحم على من خالف العلماء وتشدد وتعصب وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها وأوجب ولم يقنع بقولهم: أنه سنة ومستحب/ ص149
خاتمة:
((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون))
مثلما فسدت الأمة الاسلامية بسبب دعاة الانسلاخ والتحرر، وحقوق المرأة، التي اختزلوها في حرية الخلاعة والمجون والتمرد على الأعراف والقيم، فأصبحت بذلك سلعة.
عمد آخرون إلى حبس المرأة، بفكر وجاهلية حديثة، ووأد معاصر للبنات، ففي الجاهلية كانت الموؤدة سرعان ما تموت تحت التراب، أما الآن فتظل الموؤدة حية تعاني ظلم الأهل!!
فأصبح الوأد الجديد، أشد قسوة من الوأد القديم!!
ففضلا عن الأمراض النفسية، والانحرافات السلوكية التي ستصيب الفتاة نتيجة عطلها، سوف تذبل زهرة حياتها ويتلاشى عمرها هباء منثورا..
عزلوها في منطقة محصورة و أفق ضيق من الناحية الفكرية والحياتية، وجعلوا مجموعة من الأوصياء يقومون عليها، ويقررون عنها ، وحصروا حريتها وقراراتها فقط في النوم و الأكل والشرب؟!
تلك هي أبشع طرق الوأد!!
الشباب المسلم واقع بين تيارين، تيار العادات والتقليد والتزمت المصاحب لها، وتيار اليقظة والتصحيح والتطور والمرونة التي يتطلبها.
(( ولا حل إلا بالفهم الصحيح للإسلام، فلا افراط ولا تفريط))
أما واقع المجتمع الجزائري، فمنقسم إلى قسمين لا وسط بينهما، دياثة حد الخنا، وتشدد وغيرة حد الاختناق.
وقد قال بهذا الواقع، وقرره الكثير من العلماء والمفكرين.
موقف مالك بن نبي من قضايا المرأة:
وقف مالك من قضية المرأة موقفه من القضايا الأخرى، وقد أطلق تسمية "مشكلة المرأة" في كتابه "شروط النهضة"، وذلك انسجامًا مع منظومته الفكرية التي تدور حول مشكلة الحضارة عموما من ناحية، وللتدليل على مقدار التضخيم الذي كان من نصيب موضوع المرأة في العالم الإسلامي، سواء من أنصار التحرر الذي يصل بالمرأة إلى درجة التحلل، أم من أنصار التزمت الذي يغلق بصره أمام حقائق الإسلام .
ميز مالك بن نبي بين موقفين متقابلين من قضية المرأة: موقف المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع وإبقائها في وضعها التقليدي الذي كرسته التقاليد، وموقف الداعين إلى أن تخرج المرأة في صورة تلفت إليها الغرائز. ورأى أن موقفي هذين الفريقين يصدران عن دافع واحد هو الغريزة. وهذان الموقفان لا يساهمان في حل المشكلة، بل ربما زادا الطين بلة. وإذا كان موقف الداعين إلى التحرر على النمط الغربي واضح الأخطار على المجتمع الإسلامي بسبب ما يؤدي إليه من ترسيخ للتبعية وتبليد للحس الإسلامي وضرب الهوية الخاصة للأمة، فإن الموقف الثاني قد يكون أشد خطرا لأنه يعطي لأعداء الأمة المبررات للخوض في سمعة الإسلام والتشكيك فيه، ويجعل المرأة حين تفكر في الحرية لا تجد أمامها إلا النموذج الغربي الحاضر أمامها.
من أجل ذلك يستبعد مالك هذين الموقفين لأنه "لا أمل لنا أن نجد في آرائهما حلا لمشكلة المرأة"
ملاحظة:
هذا الكلام لا يعني الدعوة إلى التمرد والتحرر والانفلات على الطريقة الغربية, هو دعوة إلى التوسط والاعتدال, وفق الميزان الرباني الصحيح.
*************
كان نور الدين واقفا فجلس، كان فاغرا فاه ويتنفس بصعوبة، أغلق الكتاب ونزع عنه الغلاف الخارجي، فإذا به يصعق عند رؤيته للعنوان، لقد كان عنوان الكتاب(الجزاء من جنس العمل)!!
تمت بحمد الله
بقلم: شمس الهمة

عند الراقي(قصة قصيرة)

عند الراقي!!(قصة قصيرة)


حدث ذلك عندما التقينا بعد سنوات في احدى حفلات الزفاف، كنا ثلاث صديقات من مرحلة الثانوية (سعاد، عائشة وحكيمة كان اسمي)، فرقت بيننا الحياة والمشاغل، فقد أصبحت أنا مدرسة ولي ثلاثة أطفال، وسعاد أصبحت ممرضة ولديها طفل، أما عائشة فتخرجت من كلية الاقتصاد، لم تجد عملا، لذا لجأت لتحفيظ القرآن، كان حلمها دوما تأسيس أسرة سعيدة، لكن الأقدار شاءت أن تبلغ السابعة والعشرين دون عمل، ودون زواج أيضا، صديقتنا تلك كانت جميلة جداا، لذا استغربنا عدم زواجها حتى ذلك الوقت، وسألناها عن السبب، فأجابت:
- (نصيب).
لم تبد بائسة أو تعيسة، كانت لا تزال تحتفظ ببريقها ورونقها، وابتسامتها العذبة، لكني وسعاد تواطأنا من خلال حديثنا لدفعها كي تزور الرقاة، وأمطرناها بقصص سمعناها عن السحر والعين وتأثيرهما على ربط الفتاة عن الزواج.
جالسين إلى المائدة الكبيرة المضاءة والعامرة بشتى الأطباق اللذيذة، وانطلق نقاشنا المحموم آنذاك حول سحر الربط والرقاة الجيدين، لكنها لم تأخذ كلامنا بمنتهى الجد، وكانت تتهرب، وتود كل مرة تغيير الموضوع.
- العين حق، قلنا لعائشة، والسحر موجود، لا تستهيني بهذا الأمر.
محتفظة بابتسامتها وهدوءها وعيناها لا ترتفعان عن الأرض، قالت:
- حسنا، بما أنكما تصران على جعلي محور الحديث هاته السهرة، استمعا إلى تجربتي وقناعاتي في هذا الموضوع، سأحكي لكن ما حدث معي العام الفائت.

حينها خمدت حماستنا فورا، وبعيون يائسة وحزينة من أجلها، كانت وجوهنا المترقبة تقول((سحقا)) ما أتعس الجميلات، كما لو كان الجمال حظهن الوحيد من الحياة.

تابعت عائشة كلامها قائلة:

أعيش رفقة أسرتي الصغيرة في منزل متواضع، وأنا الفتاة الوحيدة ضمن أربعة ذكور.
والدتي كجميع الأمهات لم تنفك تتعجل أمر زواجي، رغم أني وحيدتها، وكانت قلقة بشأني كثيرا، ولطالما توسلت والدي أن يطوف بي الرقاة، لكن والدي كان يرفض الأمر رفضا تاما، ويغضب اذا حدثته بالأمر، وهذا لاعتقاده الجازم بأن غالبية هؤلاء دجالون، يقتاتون على أوجاع وهموم الناس.
لذا يبدو أنها تواطأت مع زوجة أصغر أعمامي، من دون علمي، ودبرتا لي زيارة إلى بيت عمي الذي يقطن بولاية أخرى غير ولايتي، هي ولاية سيدي بلعباس، وذلك لقضاء بعض الوقت.

عمي "علي" هو أقرب أعمامي لقلبي، لأن فارق السن غير كبير، فهو شاب مرح، اضافة أنه يفهمني ويستمع إلي دائما.
وهو إلى ذلك يملك سيارة جميلة، وكلما زرته في منزله، يأخذني وزوجته لأماكن جميلة دائما.
كان الفصل ربيعا عندما قرر عمي"علي" أخذنا إلى شاطئ الأندلسيات في وهران لنستمتع بجوار البحر...
كان الموعد بعد صلاة الجمعة، حزمنا أمتعتنا وانطلقنا...
بعد نصف ساعة كان الوصول..
كانت آثار برد الشتاء لاتزال موجودة لذلك لم نجد أحدا هناك...وانفردنا بصحبة البحر...
مشينا وتسابقنا وأكثر من ذلك غطسنا بكامل ثيابنا في البحر، لا أحد يستطيع مقاومة الإغراء أمام جمال المياه ودفئها...
تبللت ثيابنا فمكثنا مدة حتى جففتها الرياح ...بعدها سارت بنا السيارة في طريق آخر...كنت منهمكة في التأمل ولم أعرف إلى أين الوجهة القادمة...
وصلنا إلى مدينة "بريقو" المحمدية في معسكر قبيل آذان المغرب..
كانت ستائر المطر معلقة بين السماء والأرض وقد غسلت ثمار الرنج المنتشر في كافة شوارع المدينة...
سألت عمي قبلها إلى أين الوجهة؟!
فأجابني:(بريغو)المحمدية..
- من سيدي بلعباس الى وهران الى معسكر، هل هنالك خطب ما؟!
ضحكات صفراء خبيثة من زوجة عمي:
- أخفينا عنك السبب الرئيس لرحلتنا اليوم...نتوجه لزيارة راق معروف في مدينة المحمدية... لو كنت أخبرتك، فستقولين حرام.
عمي بضحكة متواطئة أيضا:
- هذا راق ممتاز كان دكتورا في بريطانيا، سلفي ومثقف...لا تخافي ليس دجالا_ وكلمة سلفي هي لفظ يطلق من العوام على كل من يلبس قميصا ويربي ذقنا حتى لو كان هذا الأخير طرقيا!!
- وهل خلت بلعباس ووهران من الرقاة حتى تأتوا إلى معسكر؟!
- جربنا كل أولئك الرقاة، ذهبنا إليهم واحدا بعد الآخر، لم نترك بلعباس...ولا وهران..ولا مستغانم.
سرحت بخيالي أفكر، ثلاث ولايات طافوا بها وجربوا كل رقاتها الذين سمعوا عنهم، ما الذي يدفعهم إلى تبديد أموالهم وأوقاتهم في هاته الأعمال؟!
ثم ماذا ينقصهما؟؟! ومم يشكوان؟!
فقد عهدت عمي وزوجته زوجين من أسعد الأزواج، كان لديهم بيت جميل، وسيارة وأموال وابن صغير، وكانا إلى ذلك بشوشين فرحين طوال الوقت، ويستمتعان بالحياة والسفر والتنقل من مكان إلى مكان..
ظاهريا وماديا لم يكن ينقصهم شيء...
لكنهما لم يكونا من المصلين، ولا ممن يحافظون على الطهارة أو قراءة القرآن…
كان الحزن يلتهمهما التهاما من الداخل، والخواء يصفر تصفيرا مزعجا بأذنيهما، وكان الوسواس والقلق ينخر بقلبيهما...فيحفر عميقا عميقا.ً..

اتصل به ليعلمه بوصولنا، فخرج شاب في مقتبل العمر وفتح لنا الباب...
أدخلنا في صالة الضيوف...بقينا نتمتم فيما بيننا...إلى أن حضر الشيخ الجليل...شيخ قصير القامة...كث اللحية...يلبس البياض...رغم سنه الذي قارب الستين ربما ، إلا أن حركته وخطواته كانت رشيقة مثل خطوات قطة ...
له عينان زائغتان، وتتحركان كثيرا يمنة ويسرة بشكل غير مريح للناظر اليه...
سألته عن القبلة...فأشار بها علي ، ثم تركنا وحدنا... صليت المغرب دونهما...واستأذن هو كي يصلي أيضا...ثم ما لبث أن عاد..
- انتظرتك من بعد صلاة الجمعة على حسب الموعد الذي اتفقنا عليه، أجلت كل أعمالي من أجلك.
أطرق عمي رأسه خجلا، وتوردت خدوده من فرط الحياء ثم أجاب:
الله المستعان، مشاغل ومسؤوليات ..عاقت مجيئي في الوقت.
(مشاغل، ومسؤوليات!!)
أفكر بيني وبين نفسي ، نعم... فعمي والكلمة خطان متوازيان لا يلتقيان ولا يتوافقان ، فلطالما عرفته شابا كبقية شباب هاته الأيام، لكن ليس إلى تلك الدرجة!!
ليس إلى درجة موعد مع شيخ!!
شيخ مسؤول وإمام مشغول وراق مقبول!!
مشاغل!! كم ضحكت من تلك الكلمة، فموعد مع محبوبته على البحر من دون تخطيط، كان أهم من كلمة مع من يفترض به أن يكون الشيخ والراقي والإمام!!
بعدها طلب من عمي التمدد على أريكة مقابلة وأخذ يقرأ عليه ما تيسر من القرآن..
الشيخ يقرأ وعمي يتخبط في مكانه ويتحرك بحركات *إرادية* طبعا... ليضفي جوا من الوهم والتمارض...
كان الشيخ حين ينتهي من مقطع، يسأل عمي عن شعوره...فيتظاهر الأخير بالدوخة والغثيان وتنميل في الأطراف...يطمئنه الشيخ وينصحه بقارورة باهضة الثمن تحوي خليطا من الأعشاب مع عسل النحل...وأن يدهن يزيت الزيتون المرقي...
يأتي الدور على زوجة عمي، يقرأ عليها في مكانها من دون أن يلمسها ويسألها هي الأخرى فتقوم بعمل" نسخ- لصق" لكلام زوجها وتزيد عليه قليلا.
عندما انتهى منهما، وجه إلي سؤاله مستفسرا إن كنت مريضة مثلهما وأريد الرقية...أجيبه بالنفي
حينها تتدخل الأفعى- زوجة عمي وصديقتي المقربة - قائلة:
- أرجو أن تقوم برقيتها شيخنا، هذه الفتاة لا تؤمن بالرقية، ولو تسمع خبرها لرثيت لحالها، المؤكد أنها مصابة بعين أو سحر، لذلك تخاف من الرقية والرقاة!!
توجه الي الشيخ بسؤاله:
- ألا تؤمنين بالرقية؟!
- قلت: بلى شيخ أؤمن بها، لكنني بخير، وأنا لا أؤمن أن كل شوكة يشاكها الإنسان تكون من أثر العين والسحر...
الشيخ مستفسرا زوجة عمي- وكأنني أحتاج إلى وصي ينوب عني في الكلام- أحسست وكأنني قاصر يحتاج الوصاية أو مريض يحتاج العناية أو طفلة تحتاج الرعاية- -:
- مم تشكو؟!
- الخطاب يأتون ولا برجعون، خطبها كثيرون، لكن لا أحد قرر العودة بعد الرؤية الشرعية- وهما يتكلمان عني أحسست فعلا بالقهر، أحسست بالضعف، وأحسست وكأن بي عاهة في باطني...كان حالي كمن كذب كذبة وصدقها وعاش فيها...فقد عشت الدور....أيعقل أن يتأثر العقل الباطن بما يراد له ويتصرف وفقه...فقد تأثرت فعلا بكلام زوجة عمي رغم أنه لم يكن صحيحا ...فمسألة سلوك الخطاب وعدم عودتهم كانت منطقية جدا...خصوصا وأن الرفض كان يتم عبر أهلي....فأنا كنت أقبل بأي خاطب.... علمتني أمي وأنا صغيرة أن من ترد الخاطب الأول بدون سبب تحل عليها اللعنة بسبب دعائه عليها...لم أتربى على الخرافات أو الاعتقادات الباطلة...لكن مقولة أمي كان فيها الكثير من الصحة لذا جمعت بينها وبين شرع الله وخرجت بنتيحة أن الرفض اذا كان بدون سبب...فستندم صاحبته بعد ذلك وعليها أن تحسن الظن بالخاطب وتعطيه الفرصة حتى تتبين تدينه وأخلاقه.

كنت أقبل بأي كان وأكتفي بالاستخارة، وكان أخي مشكورا يقوم بالتقصي والسؤال، إلى أن يصل إلى قناعة مفادها أن الشخص غير مناسب.
الشيخ يحملق في مباشرة مستغربا :
– آه لو رآك أبي كان سيمسح بك الأرض ، كيف تجرؤ على النظر إلي مباشرة؟! - أقول في نفسي-
- كل هذا الجمال!! ولايوجد نصيب؟؟؟
- آخ لو سمعك أخي كان سيذبحك من الوريد إلى الوريد، كيف تجرؤ على نعتي هكذا؟!
- الواضح أن كلامهم صائب، وأنت غير مدركة لما يحدث معك، تعالي اجلسي هنا..
- شيخنا، لا أشكو من شيء..الحمد لله.
- أنت لا تدركين الأمر، لو كنت ملكة جمال العالم ووضع لك سحر لحجبت عن جميع الرجال...كنت ستبدين لهم بمثابة شيطان..

سرحت في كلامه و ورحت أتخيل أن لي قرني شيطان، وأن وجهي يحمل بشاعة الكون كله...ندوب وتقرحات مخيفة وعين مشطوبة ...وعصابة قرصان...يا إلهي!! أخافني مجرد التخيل...هؤلاء الخطاب مساكين حقا ...إنهم يفزعون من رؤيتي كل مرة...سيلاحقهم طيف بشاعتي كل حياتهم...وربما كرهوا كل النساء بسببي...في المرة المقبلة لن أدع أحدا يراني حتى لاتعذبه صورتي...

أفقت من سرحاني على أوامر الشيخ:

- تعالي يا بنيتي

قعد قبالتي ثم رأى خجلي فأخذ يسألني بصوت خافت..
- هل تأتيك كوابيس في الليل؟
- لا
- هل يؤلمك رأسك عموما، وبالخصوص وقت العصر
- لا
- هل تعانين ألما أسفل الظهر، أو تساقطا للشعر
- لا
تمعض وجهه فجأة يبدو أن أجوبتي لم ترقه، فتلك كانت أعراض سحر الربط عن الزواج وأنا بددت له شكوكه...((كنت محصنة ضد الدجل والدجالين وأميزهم من خلال علامات معينة، ففي وقت مبكر جدا قرأت كتب الشيخ وحيد عبد السلام بالي - كتاب الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار- وكتاب وقاية الانسان من الجن والشيطان- وذلك قبل سن الخامسة عشر، قرأت كتبا كثيرة في حياتي بعد ذلك لكن الكتب التي شكلتني وشكلت معتقداتي وتلك التي أتذكرها من دون غيرها هي الكتب التي قرأتها في الفترة ماقبل سن الخامسة عشر...كنت عجينة طرية وتلك الكتب شكلتني في قالب صحيح.))

أخذ يقرأ علي بعض الآيات القرآنية وكان متقنا لأحكام التجويد، وأصدقكم القول أن صوته بالقراءة كان مثل المقرئين، لذلك استبشرت خيرا
انتهى من قراءة دامت أكثر من ربع ساعة، ثم سألني:
- هل تحسين بشيء؟!
- لا
- ألا تحسين بتنميل أو خدر؟!
- لا
ازداد وجهه تجعدا هذه المرة أيضا ثم واصل القراءة وكان كل مرة يسألني فيها أجيب بالنفي...
حينها تمتم بكلام غير مفهوم ثم شرع يقول:
- ادخلوا يا عباد الله
- ادخلوا يا عباد الله المؤمنين
- ادخلوا في هذا الجسد المؤمن
انتفضت من مكاني، وقلت له بنبرة خائفة و مرعوبة:
- بارك الله فيك شيخنا، الحمد لله، يبدو أنني لا أعاني خطبا ما.
ثم أومأت لعمي بأنه يجب علينا الإنصراف

ارتعب عمي من كلام الشيخ، وهيئتي المرعوبة وأبي الذي لايعلم شيئا عن هذا الموعد، ولأول مرة في حياته أحس أخيرا بالمسؤولية، وكلم الشيخ موضحا له أننا تأخرنا، وأن موعدا هاما بانتظاره...
- صرتن مدركات الآن، (عمي لديه مشاغل!! ).

وسكتت عائشة، فانفجرت وصديقتي نسألها:
- والمغزى من كلامك، ربما هو دجال مثلما ذكرت، لكن يوجد رقاة حقيقيون، ألا تؤمنين بالعين والسحر؟!

أجابت وابتسامة تعلو ثغرها:
- أؤمن بالعين، فهي حق، وأؤمن بالسحر أيضا، وأؤمن بعالم الجن،  وأنه يتلبس الإنسان، لكنني لا أؤمن بالوهم.

ثم أردفت سعاد قائلة:
- ماذا حدث بعدها، هل أصابك مكروه؟!

تنهدت عائشة كمن تخلص من حمل ثقيل، ثم قالت:

- مكثت بعدها عدة أشهر وأنا أتخيل أن عائلة مكونة من سبعة أفراد ربما ، ستتلبسني يوما ما...فيبدو أن أزمة السكن شاملة لعالم الجن أيضا، والدليل أن هؤلاء اعتدوا على أجساد نصف الجزائريين!!

#شمس_الهمة


روتين العيد ببيتنا


روتين العيد ببيتنا:


في الماضي، ولأن أسرتي صغيرة، كنا نقضي العيد في بيت الجد والجدة، العيد يومها كان راائعا، والبيت الكبير كان يمتلئ عن آخره، شباب، مراهقون، صبايا، نساء وعجائز، وأطفال أشقياء.
حين كبرنا، توفي جدي، وتغيرت الأوضاع، صرنا نحتفل في بيتنا بعد زيارة بضع أرحام في الصباح فقط، ولكم أن تتخيلوا عشية العيد، أو بالأحرى كل ذلك الوقت بعد العاشرة صباحا، نتناول الفطور، ونأخذ قيلولة لأن طارقا لن يطرق بيتنا يومها، ثم نجتمع حول طاولة القهوة والشاي والحلويات، ونمكث في البيت نشاهد التلفاز، كان ذلك مملا وكئيبا للغاية، استمر معنا لبضع سنوات.
بعدها فكرنا في ذلك الوضع، وقررنا تغييره إلى الأفضل، فالسعادة أنت من يصنعها.

اتفقت وشقيقاتي على تحضير الكسكسي يوم العيد، واذا طرقنا طارق فلن نتركه يذهب من دون تناول الكسكسي، إخوتي الشباب لا يحبون الكسكسي، لذا فهم يكسرون حدة الجوع يوم العيد بساندويشات الشاورما، التاكوس، أو البيتزا، وحين يعودون إلى المنزل يتناولون البيض المقلي وشرائح الكاشير المالحة، التي تكسر حلاوة مخبوزات العيد.
بعدها أصبح أخي يعد صينية كارنتيكا يوم العيد، فهو يجيد تحضيرها ببراعة.
الكسكسي، الأومليت، السلطة، شرائح الكاشير، وصينية الكرنتيكا الكبيرة، أصبحت طقسا واجبا اشتهر به بيتنا، وكان يروق الأطفال وأمهاتهم كثيرا، وكان كفيلا بجعل الجميع أطفالا وكبارا، شباب ونساء يفضلون المكوث ببيتنا، فالعيد أصبح له طعم خاص ومميز.

يجتمع الرجال في الصالة الرئيسية الكبيرة، ويجتمع معهم الشبان في زاوية خاصة، أما المراهقون فيجلسون في أريكة واحدة مع هواتفهم الجوالة لا يرفعون رؤوسهم عنها فهم منغمسون بلعبة pupg.

النساء يجتمعن في صالة النساء رفقة أمي، بينما تجتمع المراهقات في غرفة ويغلقن على أنفسهن بالمفتاح، لدرجة تجعل صغيرات السن يستغربن ذلك الفعل، ويحاولن التنصت عليهن، أضحك أنا في داخلي من فضول الفتيات الصغيرات، وأتذكر ذات السلوك فقد كنت وبنات خالي وخالتي نقوم بذات الشيء، ونغلق على أنفسنا أيضا، وأشرح لهن أن جميع البنات سيمرون بذات المرحلة، وأن للمراهقات عالمهن الخاص.

الصبايا يتركن صالة النساء، ويجتمعن معي في المطبخ، وتبدأ هناك مرحلة من الأحاديث الحميمة العذبة، مصحوبة بغسيل الأواني وتحضير الحلويات والقهوة والشاي، وصحون من الكسكسي بالمرق لمن أراد والحليب الرائب أيضا.

الأطفال الأشقياء لا تهدأ لهم حركة، فباب بيتنا لا يعرف الهدوء، ما بين داخل وخارج لابتياع الألعاب ورقائق البطاطس وغيرها، اضافة للجري عبر الرواق، وعبر السلالم إلى الطابق الثاني، وغالبا ما نسمع بكاء وشكاوي ومشاجرات لا تنتهي.

أتنقل بين الغرف لإلقاء السلام، ومعرفة ما يحتاجه الضيوف، وأجلس قليلا في مجلس النساء، ثم ما ألبث أن أصاب بالغثيان من تلك الأحاديث، أحاديث عن المظاهر والفوخ والزوخ، ومن أي محل اشتريت ملابس أبناءك، وهل رأيت المركز التجاري الذي افتتح مؤخرا، وتتخلل تلك الأحاديث صرخات أمهات غاضبات على أطفالهن(غيغي، ارواح نغسلك يديك، دوك يحكمك ميكغوب)، والأخرى التي لا تترك طفلها يخالط الآخرين، وكلما بكى ناولته ضربة بقفا يديها المليئة بالخواتم الثمينة العملاقة، والتي وبلا رحمة تتسبب للطفل بنزيف في الأنف والفم وسط استغراب الأخريات من النساء).
وهنالك تلك التي أحضرت معها علبة من مختلف الحلويات، وقالت أنها من قام بصنعها في حين يتهامس الجميع حولها، ويعرفون أنها تكذب، لأن شكل الحلويات الصارخ يدل على أنها قامت بشرائها😂😂

ثنائيات المتزوجين الجدد الذين تنطق عيونهم بالمرح والبهجة، والذين يصرون على التقاط الصور في كل مكان في البيت، يتبعهم الأطفال ويحشرون أنفسهم ليظهروا في الصور رفقة العروسان.

رائحة المرق باللحم، مع الكزبرة والكرافص، ممزوجة برائحة الكاران، تختلط بروائح العطور لأحدث الماركات العالمية، نسيت أن أقول أن يوم العيد هو يوم الجوع العالمي، فنحن لا نفطر مرة واحدة فقط، بل نكرر الفطور كل مرة لكسر حدة هذا الجوع الغريب.

في الصالة الرئيسية، ترتفع أصوات الرجال بنقاشات محمومة حول مختلف القضايا السياسية الراهنة، وأود في قرارة نفسي لو ألتحق بمجلس الرجال، لولا أنه يضم رجالا آخرين من غير المحارم، أصدقاء والدي واخوتي، الجيران وهلم جرا.
الرجال لديهم شهوة كبيرة للكلام في السياسة، لدرجة تجعل اخوتي الشباب يقومون بأخطاء كارثية، يستدركونها في آخر الليل(آه، يا إلهي فلان لم أصب له القهوة، الآخر لم نحضر له الكسكسي، فلان لم أضع السكر بقهوته، والآخر لم أسقه العصير البارد) اضافة أنهم لا يتفقدون اذا فرغت صحون الحلوى، أو ترمس القهوة، فوالدتي من يقوم بسؤالهم كل مرة.
- أووووه، الذكور لا يمكن الاعتماد عليهم أبدا😌😑


أصبح بيتنا عامرا بفضل الله، ونسيت اخباركم أن السيارات التي تصف بجانب بيتنا تحتل الشارع بأكمله، لدرجة جعلت الجيران يتطفلون بدافع الفضول، ورغبة في تعرف أقاربنا الذين قدموا من مختلف الولايات.

يستمر يومنا حافلا، يذهب الغرباء لأخذ قيلولة، بينما ننفرد نحن أخيرا بالأخوال والأعمام.
لا أحد يأخذ قيلولة ذلك اليوم، إلا اثنين من أخوالي الذين قدموا من ولايات بعيدة، ترافقهم والدتي للطابق الأعلى حيث يرتاحون وينامون لمدة ساعة أو نصف الساعة فقط.

في المساء يتواصل الزوار، ولا يخل بيتنا إلا مع آذان المغرب، حينها يتبقى ببيتنا الأخوال رفقة نسائهم وأطفالهم، نتعشى سوية، ثم يغادرون في الليل كل لمدينته البعيدة.

فاللهم اجعلها دوما عامرة.

#شمس_الهمة




الوأد الصامت





"الوأد الصامت"


لبث مدة بباب الملتزم، دعا الله كثيرا، سالت دموعه، وحلقت روحه نحو السماء، تحمل إليها دعاء المضطر ، نسي نفسه، ودخل في شبه غيبوبة، حجبته عن الزمان والمكان.
- ماذا يا عم؟ هل ستبيت هنالك الليلة؟ صرخ فيه أحد المعتمرين من بعيد.
- ‏نم جيدا يا عزيزي، وأنا سأجلب لك البطانية لتهنأ بنومتك!! أردف معتمر مغربي.

استفاق أخيرا من غيبوبته على كلام الحجيج ونداءهم المستمر له، مسح دموعه وانسل عائدا بين جموع المعتمرين..
"نور الدين" شاب ثلاثيني، طويل القامة، نحيل الجسم، بعيون سوداء تدوران في محجريهما دورة وحشية، كأنما رعبته الحياة مذ كان جنينا في بطن أمه.
عاد إلى الفندق وقد أظلم وجهه وتلبد، كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ، وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار...
نظر في المرآة، وجه شاحب، رسم عليه الزمن خطوط الهم والأرق، مرر أصابعه فوق شعر رأسه، وأخذ يحدث نفسه أمام المرآة:
- شعيرات بيضاء بدأت في فرض حصارها فوق رأسي، تزداد بمعدل مرعب لا يتناسب وسنوات عمري، وكأنها تعمل في سرية طوال الوقت، على تجنيد ما يجاورها من شعيرات سوداء خائنة لوطنها..
فتح فمه ونزع طقم أسنانه العلوي، تأمله برهة ثم زفر:
- آه...الزمن... أخذ مني كل شيء جميل، صرت وأنا في هذا السن عجوزا في مقتبل العمر
استلقى على سريره وطفق يسترجع شريط حياته "ستة وثلاثون سنة ولا أزال وحيدا من دون زوجة ولا أطفال، وأنا الذي تمنيت بناء أسرة في ريعان الشباب!!"
ترى هل يستجاب دعائي هذه المرة؟!
عمرتين وقيام الليل، ولا أزال على هذه الحال!!
رباه، لم أعد أقوى على مزيد من الصبر، فتن كقطع الليل المظلم، ونساء كاسيات عاريات، اللهم يا رب أقر عيني وأرح قلبي"
عادت به الذاكرة إلى الوراء قليلا، وتذكر عهد الصبا، وعديد خيباته في البحث عن الزوجة الصالحة:
 مذ كان عمري عشرون عاما، وأنا أبحث عن الزوجة الصالحة.
 أشعر بالملل والعناء، وتعبت من عدم توفيقي في هذا الأمر، أخاف أن أتنازل عن الشروط التي أريدها في من أريد الارتباط بها بسبب ضغوط الأهل، والمجتمع ، وتقدم عمري، وبسبب الشهوة والفتن التي تحيط بنا من كل مكان.
 ‏البحث عن زوجة صالحة في هذا الزمان أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، الأمر ليس بالشيء السهل إلا على من سهله الله له، فكيف أجد زوجة صالحة ترضيني وكيف  الصبر على كل هذه الضغوط حتى أجد الزوجة الصالحة؟.
 **************
- أمي، قلت لك مرارا أنني لن أتزوج فتاة لَمَحْتِها ترقص في حفلة زفاف.
- ولكن، يا ولدي ، من أين سآتيك بالفتاة التي ترغب، وأنا لا أذهب إلى أي مكان سوى حفلات الزفاف مرة أو مرتين في السنة؟!
اسأل أصدقائك لربما كانت لهن أخوات صالحات، أو حتى أخوات زوجاتهن!!
- لقد فعلت يا أمي، أصدقاء وأي أصدقاء؟!
أصدقائي لا يفكرون سوى بأنفسهم، لا أحد يهتم لأحد اليوم، ولا أحد يفكر فيك.
- ولكن ما الحل ؟!
أنت لا تبحث أبدا، هل ستسقط عليك العروس من السماء؟!
- وما أدراك أنني لم أبحث يا أمي، لا أثر للمرأة الصالحة في هذا الزمان، كلهن كاسيات عاريات
- بني، لا تقل هذا الكلام، النساء الصالحات موجودات، ولكنهن كالدر المكنون محفوظات...ابحث جيدا وستجد بإذن الله.
- أين سأجدهن يا أمي، وكأن الأرض ابتلعتهن، لا أثر لهن في أي مكان أقصده.
- الزم محلات وأماكن تواجد النساء، فلربما التقيت نصفك الثاني هناك، من يدري؟!
- وهل سيخفى علي أمر كهذا يا أماه، خمس سنوات من لزوم تلك الدكاكين بلا جدوى، لا أدري أين تختفي الصالحات وأين يمكنني ايجادهن؟! ولماذا ؟!
- جرب الجامعات، ستجد هنالك فتيات متعلمات وبقمة الأخلاق.
- لا أريدها جامعية يا أماه، أتزوجها اليوم وغدا تشترط علي العمل لأنها كرهت من المنزل، هذا بالنسبة لمن درست بجامعة قريبة منها لا تضطرها للمبيت في السكن الجامعي، السفر بدون محرم حرام، ولو كانت فتاة صالحة للزمت البيت،( لن أتزوج فتاة السكن الجامعي، حتى لو انقرضت كل نساء حواء من على وجه الأرض، وبقيت هي فقط) .
ثم ما أدراني أن من أختارها ليست على علاقة مع أحد زملائها وهي تدرس في جامعة مختلطة؟!

************
أفاق من شروده على صوت آذان العشاء، توضأ وصلى في مسجد قريب، تناول عشاءه، ثم عاد إلى الحرم، عازما على إحياء الليل في الابتهال والدعاء.
استمر على ذلك الحال طويلا، يبكي ويشهق، ويتوسل إلى الله.
صلى الفجر هنالك أيضا، ثم جلس يستغفر ويتلو الأذكار، توقف هنيهة يسترجع أنفاسه، وأخذ يكلم نفسه:
ترى هل سيستجيب لي الله هذه المرة، أريد إشارة تطمئن قلبي، إشارة واحدة يا الله.
فتح المصحف، فوجد أمامه الآية الكريمة:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. هود (112).
ارتعد قلبه، وانتفض جسده، ثم ما لبث أن تناسى الأمر، إنه مجرد صدفة.
عاد إلى غرفته بالفندق شغل التلفاز، وأطفأ الأضواء لينام على صوت القرآن الكريم، اختار قناة المجد للقرآن، فكانت الصدمة!!

الآية نفسها، السورة ذاتها، إنها الإشارة التي طلبتها.
لكنها مبهمة يا الله، ماذا أفعل كي ترضى؟!
مسح العرق من على جبينه، وازدرد كأسا من الماء بعد أن جف ريقه، ثم استسلم للنوم.
استيقظ على صوت آذان الظهر، ثم تذكر أنه رأى حلما غريبا، سرت قشعريرة في بدنه حين تذكره، وداهمه احساس غريب لم يعرف له سببا.
توجه إلى صنبور المياه، توضأ وضوئه للصلاة، وأسرع مهرولا إلى مسجد قريب.
أنهى الصلاة، ثم توجه إلى مطعم قريب، طلب وجبة افطار، ثم شرد مع نفسه: "ذلك الحلم، ترى ما معنى تلك الآيات التي تكررت في منامي؟!
ماذا فعلت في حياتي؟!
ومن ظلمت؟!
أم تراها فقط من حديث النفس، فأنا كما يبدو مرهق جدا.
الآيات بعيدة عن الإشارات التي طلبتها.

يا رب فهمني وعلمني، أكاد أجن.

************
أتم عمرته، وعاد إلى الوطن، الحيرة نفسها... الضياع نفسه...
لا يزال في رحلة بحث مضنية عن الزوجة الصالحة.
مر شهران منذ أدائه للعمرة، لكن يومياته على حالها، بحث هنا وهناك، سؤال هنا وهناك، ونقاشات لا تنتهي مع والدته.
ذات مساء تقدمت أم نور الدين نحو غرفة ابنها، طرقت الباب، فأذن لها بالدخول.
ابتسامة عريضة تعلو محياها، وعيناها تشع ببريق ظاهر
- أرى الفرح في عينيك يا أماه، كيف كان يومك عند الطبيبة، وما سر هذه السعادة؟!
- دعك مني الآن، فأنا بخير، حالك أنت من لا تسر
- هل أفهم من كلامك أن الموضوع يعنيني يا أماه؟!
هل وجدت لي عروسة لدى زيارتك تلك الطبيبة؟!
- تقريبا، ولكن ليس بعد
وأنا في العيادة سألت لك النسوة هناك، فأرشدنني إلى البحث في المدارس القرآنية، أو في المساجد فهذا الصنف لا يظهر إلا هناك يا بني...عقب العيادة مر بي أبوك من جانب مسجد "الفاروق"،  كان وقت الظهر فرأيت منظرا جميلا من فتيات في عمر الأزهار يرتدن ذلك المسجد، ليس مثل مسجد حينا، العجائز فقط من يسمح لهن بالصلاة ، بينما تحبس البنات مثل أختك " منار" تماما...
- فكرة جيدة جدا يا أمي، كيف غابت عن بالي؟!
ولكن -----
- ولكن ماذا يابني؟!
- من سيتكلف بمهمة البحث والاستقصاء، وأبي يغار عليك، و يتشدد عليك بمنعك من الصلاة في المسجد؟!
- قم أنت بهذه المهمة يا بني، الزم حائط المسجد ، وترصد دخول البنات أو خروجهن، فربما وقعت عينك على من تسر قلبك.
- ماذا تقولين يا أماه؟!
اترك الصلاة، وأطلق بصري هنا وهناك على بنات الناس
هذا سلوك الرعاع؟!
- ولكن قصدك شريف وطيب!! أنت لست مثل هؤلاء.
- لا...لا...يا أماه...لن يحدث هذا الأمر
"منار" هي من ستذهب إلى المسجد كل صلاة، وهنالك تلتقي بالفتيات الصالحات، أبي لن يسمح لك ، لكنه سيسمح لمنار.
- منار؟! ولكنك أنت من كان يمنعها عن المساجد ودروس القرآن!!
- الوضع اختلف الآن يا أمي، وهي فرصة لتراها الأخوات أيضا...فلربما اصطدنا عصفورين بحجر واحد، من يدري ؟!
ربما يتزوج كلانا بعد كل هذه السنين؟!

************
خطى نور الدين من فوره، بخطوات مسرعة نحو المطبخ أين تقبع "منار"، ومن وراءه أم مخدوعة كأنها في يد ابنها كرة الخيط، كلما جذب منها مدت له مدا...
دلفا إلى المطبخ، فوجدا "منار" هناك.
 شابة في أواخر الثلاثينيات، لها وجه رغم جماله إلا أن عليه ذبول الدنيا كلها ، وتدور في هذا الوجه عينان غائرتان، تائهتان، تنبئ أن دمها قد وضع من جسمها في ثلاجة.
"منار" ذات مستوى تعليمي متواضع، فأخوها نور الدين لم يسمح لها بارتياد الثانوية، ولا حتى جامع أو مدرسة قرآنية...
تركت للحزن والفراغ يلتهم شبابها التهاما...
كانت فارغة من الداخل، واهتماماتها لا  تتعدى حائط المطبخ، صار قلبها كتفاحة متعفنة لا تغري أحدا.
امرأة بلا هدف، أو رسالة، خاوية من كل شيء، عدا السعرات الحرارية التي تحشو بها معدتها بحجة الملل...
كانت تمارس حرفة الانتظار، كي تبدأ حياتها فعليا ، وتتحقق كل أحلامها المؤجلة لما بعد الزواج..
فصارت تنتظر الزواج بلهفة السجين لخبر الافراج عنه...
وبينما هي عاطلة عن الحياة، وتمارس هذا الغباء، كان نور الدين يعيش حياته ويستمتع بشبابه.
"منار" زورق إنساني صغير، ترك يتكفأ على صدمات الأيدي والصدف والأقدار...
كانت تكابد لتظل على قيد الإنسانية، محبوسة في زاوية مظلمة، تتلمس نقاط النور، وتبحث عن الدفء والضياء،  كانت تناضل حتى لا تتعفن روحها هناك.

**************
تنحنح نور الدين، وابتسم ابتسامة تنم عن الحماس، ثم عرض الفكرة على منار.
كانت منار تستمع وتشرد مع كل كلمة منه تقال، فقد اعتادت على عدم مقاطعته ، ولم تكن لتنخرط في نقاش مع أسماء لا تشبه الأسماء التي علمها الله لآدم.
استمرت بتحريك الحساء وأحست بمرارة الحياة بأسرها تختلط مع ذلك الطعام، ومع بخار الحساء كانت تتصاعد من روحها نفثات من الضيق والإعياء.
عاد بها الزمن إلى الوراء، واستولت على تفكيرها تلك الذكريات...
****************
- سأذهب لزيارة بنات عمي، فقد اشتقت لهن يا أماه...قالت منار لوالدتها بحماس
- أخوك نور الدين لن يسمح بذلك، بيوت أعمامك وأخوالك كلها صبيان، وأخوك شديد الغيرة(أجابت والدتها).
- ‏ولكن، يا أمي أنا لا ألتقي أبنائهم مذ تحجبت، وهم يعرفون ذلك جيدا...
- تعرفين أخاك، سيقول بأنك صغيرة، وربما التقيتهم ونحن لا نعلم، والواجب درء المفاسد
- ولكنني لا أزورهم إلا معك يا أمي، هذا معناه أنه لا يثق بك أيضا...لقد مللت وضاقت علي نفسي، كل شيء عنده معلل بسد الذرائع، واغلاق باب الفتن...حتى الجيران لا نزورهم، لأن لهم أبناء من الذكور... ومهنة الخياطة توقفت عن ممارستها بسبب احتياجي المُلِحّ لمستلزمات الخياطة ، وهو لا يجيد ابتياع مواصفات ما أريد، ولا يسمح لي بمرافقته لشرائها بنفسي ، بحجة أن أصحاب الدكاكين رجال شهوانيون...
أتساءل هل نحن اجتماعيون؟! ولماذا لا نسكن أحد الكهوف أو احدى الجزر المعزولة سدا للذرائع!!
دخلت منار غرفتها تجر أذيال الخيبة، وقد استبد بها الحزن، واستولى عليها القنوط واليأس... ثم ما لبثت أن اهتدت لفكرة ضمنت معها أن أخاها نور الدين لن يعارضها هذه المرة...وذهبت إليه تحلق مثل فراشة في حقل جميل...
- نور الدين ، أحس بالوحدة والاختناق، واللاجدوى، أريد ارتياد مدرسة قرآنية.....ما رأيك؟!
- لن أسمح لك طبعا، فالمدارس القرآنية أصبحت مركزا للمخططات السياسية ، وأخشى عليك مغبة ذلك.
(مخططات سياسية؟ ) تساءلت منار في نفسها.
- طيب، ربما معك حق في هذا، ما رأيك لو أخذتني لدروس العلم معك ؟!
- العلم متوفر بالمنازل، كبسة زر وأنت حصلت عليه، اطلبي ما تشائين وسوف أحضر لك مختلف الأشرطة والأقراص..لا داعي لخروجك من البيت.

- لا تسمح لي بالذهاب عند الأخوات، ولا صلة الأرحام، طيب ، هل تسمح لي بالصلاة في المسجد؟!
- ‏صلاة المرأة في بيتها خير
- ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال :" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"
- أنت لا تعرفين شيئا، قال أيضا:( وبيوتهن خير لهن)
عبس نور الدين وقطب حاجبيه ثم أردف بحزم:
- ‏لا تناقشيني من فضلك، أم تريدين التفلت والخروج بأي ثمن؟
يمكنك حفظ القرآن في المنزل، وسماع الدروس والمشايخ من التلفاز والأقراص.

حافظت منار على هدوءها، استجمعت شجاعتها وقررت أن لا تخاف كعادتها عقب كل نقاش، إنها تملك الحجة الآن، فقد استمعت لكلام الدعاة، وهي مقتنعة أن أخاها نور الدين يتكلم دون علم، والدين براء من ذلك التشديد على الأنثى ومحاولة خنقها.
قالت كل شيء دفعة واحدة، خشية أن يقاطعها:

- لكن يا نور الدين المرأة شريكة الرجل في بناء المجتمع، وعندما أمرها الإسلام بالستر وعدم الخضوع بالقول لم يكن يريد حذفها هي، بل أراد حذف النظرة المادية الشهوانية تجاهها.

 المرأة أعدت لأدوار عظيمة إن أحسنا تهيئتها لذلك، و إن كانت التربية المستقيمة لها أهم سبل التهيئة فإنها وحدها غير كافية... العلم الصالح من مصادره الطيبة و المعرفة الاجتماعية التي لا تتسنى إلا بالانتماء للمجتمع، يشكلان عاملان هامان الى جانب التربية للتهيئة السليمة للمرأة بعيدا عن كل العقد النفسية ....

هكذا دور ألا يحتاج الى تنشئة نساء أهل لذلك : تنشئة تربوية، علمية ، معرفية ، واجتماعية؟!
 للأسف لا يتأتى كل ذلك بحبسها بالبيت، لأنه أصبح من الصعب التفلت من الملهيات فيه، من أشغال يومية، و برامج تلفزيونية تبعدها عن النشأة السليمة ، أضف إلى ذلك صعوبة التعلم بدون معلم معين يساعد بشكل خاص على الانضباط، و تحديد المصادر الأهم لطلب العلم....
صار لزاما علينا الالتفات إلى ذلك، فنحن ننادي بالإصلاح و نفسد أهم حلقة فيه " المرأة".
الماء الراكد فاسد، عكس الماء الجاري..
والمسلم رجلا كان أو امرأة ، لا يعيش على الهامش بمعزل عن العالم...إنما يؤثر ويتأثر.

استشاط نور الدين غضبا ، وصب على أخته "منار" وابلا من الشتائم لم يتلقه "دونالد ترامب" من المسلمين ثم قال:
- تتفيقهين، وتهرفين بما لا تعرفين، أكرمك الله ببيت يأويك ويسترك ، وتريدين التفلت والانسلاخ؟!
هل تنكرين أن بيتك هو جنتك؟!
الضوابط التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم لذهاب المرأة للمسجد غائبة في زمننا هذا ، من أمن الفتنة ووجوب بعد مكان الرجال عن النساء ، وتريث الرجال في الخروج حتى يخرج النساء ، معظم المساجد مدخل الرجال بمحاذاة مدخل النساء ، ويمكن أن تري جموع المصلين من الرجال يوم العيد حين يخرجون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، لتعرفي أن زمننا غير زمان السلف.

*********
خرجت منار عن صمتها وشرودها، مسحت بظاهر كفها حبات العرق من على جبهتها، ثم توجهت بكلامها نحو نور الدين:
{ وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت}
أتذكر هذه الآية؟!
كانت آخر جملة قلتها لك عقب آخر نقاش بيننا، هل تتذكر يا نور الدين؟!

كان نور الدين واقفا فجلس، فغر فاه و أخذ يتنفس بصعوبة، أغلق عينيه ونزع عنه رداء الحاضر، وعادت به الذاكرة إلى الوراء، تذكر كيف تصرف يومها، كيف تشدد وتنطع، وظلم منار وضيق عليها.
كيف حبسها وأغلق عليها.

تلك الرسائل التي كانت تزوره من الله، تلك الإشارات، كانت مغلقة عن الفهم بالنسبة إليه، حبيسة الذكريات في أرشيف المجهول فما إن تحدث إلى منار، منار التي كان يعاملها كتحفة أثرية منسية تراكم عليها غبار الأيام، حتى برزت له رسائل الله من بين ركام أحزانه، وأخيرا سيحاول نبشها من غياهب الظلمات وقراءة سطورها في النور الذي تسلل إلى قلبه أخيرا.
كان عنوان الرسالة(الوأد الصامت!)



بقلم: شمس الهمة


المظلوم الظالم

المظلوم الظالم:

الذي يرضى الظلم على نفسه، ولا يحاول رفعه أو دفعه، أو إنكاره، الذي يعيش عيشة الذل ويرتضيها سيرضاها لغيره لا محالة، هذا لا تتوقع منه أن ينصر مظلوما، ولن يتورع هو ذاته عن الظلم يوما ما اذا صارت بيده مقاليد الأمور.
تأمل مثلا مشهد نادل مقهى أو مطعم فاخر، تأتيه زبونة من محدثي النعم، وتتحجج أن الطاولة غير نظيفة، وأن الوجبة غير لطيفة، وربما زادت فقالت أنها وجدت شعرة بخبزة البيتزا، أو ساندويش التاكوس، تفعل كل هذا بنبرة استخفاف واضحة، واحتقار بائن، وضحكات صفراء ساخرة.
يعود النادل بطيبة وابتسامة، ويناولها طلبها مجددا، بانتظار فخامتها كي ترضى عن الخدمات المقدمة، والمهم أن لا نخسر الزبائن.
يذهب لطاولة أخرى، فيفاجأ بصراخ شخص ضخم الجثة، يرغي ويزبد لأنه طلب شايا بالحليب لكنهم قدموا له حليبا بالشاي.
ومجددا يقدم النادل فروض الولاء والطاعة، وكعادته يغمغم (المهم أن لا نخسر الزبائن).
منظر النادل لمن له قلب يدمي ويبعث لواعج الحزن والأسى والتعاطف، ويجعل المرء بينه وبين نفسه يلعن سلوك العتاه القساة المتجبرين.
لكن دعك من العواطف قليلا، وتابع معي يوميات ذلك النادل، سنتبعه لبيته ونرقب سلوكه مع زوجته وأطفاله، لا تستغرب!! نعم، إنه يقوم بظلم وإذلال الزوجة والأطفال، يفعل بهم كما يفعل به في مكان عمله تماما.
دعك من هذا الآن سنتبعه هذه المرة لكفتيريا راقية للقاء صديق، خذ لك طاولة قريبة، وراقب سلوكاته جيدا، إنه على موعد مع صاحب أو صديق، ولقد تأخر هذا الأخير عشر دقائق عن الموعد المحدد، دعك من هذا الآن فليس هذا موضوعنا.
لا ترفع عينك، قلت راقب جيدا، سيأتي النادل لمعرفة طلبه، يكتبه على قصاصة ويذهب سراعا لجلب الطلب، يعود في ثوان، يضع الطلب على الطاولة، فيفاجأ بصاحبنا ضاربا الطاولة بكلتا يديه، والزبد يخرج من فكيه، وعيونه تعتصر من الجمر، ما هذا يقول؟!
- لقد طلبت قهوة بالحليب، لا حليبا بالقهوة، هل فهمت أيها الأحمق؟
تأمل مشاهد أخرى من الحياة، كنة تظلمها حماتها وتستعبدها، أجير يظلمه رب العمل، أستاذ يظلمه المدير وهلم جرا.
غالبا سنتعاطف مع هؤلاء، ونتمنى أن يرفع عنهم الظلم يوما ما، ونعتقد جازمين أنهم طيبون بريئون.
تتبع كل هؤلاء وستجد أنهم يظلمون من هم تحت أيديهم، ناهيك أنهم لا ينتصرون لمظلوم، ولا ينكرون على ظالم.
باختصار عالم يأكل فيه القوي الضعيف- إلا من رحم ربك-
ولتنتبه أيها المظلوم لمن هم تحت يديك، اتق الله ولا تكن من الظالمين، فلربما نصرت على ظلمتك بالضعفاء، بتجنب ظلمهم والاستقواء عليهم.

الله حرم الظلم على نفسه، وقال عن هؤلاء {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
 واستثنى عز وجل من ئلك فئة الضعفاء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا فقال؛
{ إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ "، قال: يعني الشيخَ الكبيرَ والعجوزَ والجواري الصغار والغلمان.}
والنفوس الحرة الأبية لا ترتضي الظلم ولا تعيش الذلة والهوان ، والتاريخ سطر بطولات ومآثر لأحرار لم يرتضوا عيشة الظلم والذل والهوان.

ولقد حرم الله تعالى الركون إلى الظالمين، وكذلك حرم الدفاع عنهم فقال في كتابه العزيز {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} القصص 17

فالعجب كل العجب اليوم لمن لا ينكر الظلم ولو بقلبه، بل وصلنا لمرحلة تبرير الظلم، وأوصلنا العجز عن انتقاد سلوكات الظالم إلى الثناء على أفعاله.

#خواطر_مبعثرة_مرتجلة

#شمس_الهمة


العيد

 تلك اللحظات الحرجة قبيل يوم العيد، ذلك التعب، والضغط، تلك الأمور التي أنجزت نصفها والنصف الآخر ينتظر منك اتمامه حالا، ذلك التوتر، وتلك الأع...