لا تتركوا الأمهات وحيدات:
حين كنا صغارا، نتحلق جميعنا حول التلفاز في الصالة الرئيسية، شاعرين بدفء أسري لاجتماعنا، ولقرب المدفأة من كل غرف البيت، والتي كانت تبعث بحرارة تعم كل أرجاء المنزل الصغير.
في حين كان والدي يقبع بغرفة مكتبه المظلمة إلا من ضوء خافت ينبع من مصباح صغير على مكتبه، عاكفا على تصحيح الأوراق، أو كتابة المذكرات التي غالبا ما كان يكورها بين يديه ويرمي بها في سلة قريبة، ليعيد كتابة أخرى.
أما والدتي فكانت تقبع في الرواق على هيدورة بجانب المدفأة، وكانت غالبا ما تضع لنا حبات الفول السوداني فوقها لتصبح مقرمشة، في حين كانت تقوم بتقليبها، ثم تعكف على حياكة كنزة أو شال صوفي لأحدنا.
كان مكانها استراتيجيا جدا، فهي ترى وتسمع كل حركاتنا وسكناتنا، وكذا حركات والدي فيشعرها ذلك ويشعرنا نحن أيضا بالقرب.
والدتي لم تحب التلفاز يوما، ولا بهارج الدنيا وزينتها، فكانت أغلب الأوقات وحيدة، مبتلاة بمرض التأمل والتفكير، تهرب من الوحدة والحزن الدفين إلى أعمال المنزل أو حياكة الملابس، وكان الدمع عندها عادة تبكي في فرح وفي أحزان.
والدتي شخص رقيق حساس جدا، لدرجة أنها تبكي دوما في قصصها الأيتام، وتحس بكبار السن وتذكرهم دوما، وتعطف على الصغار، وحتى الحيوانات والحشرات.
قلبها فياض بالرحمة والمحبة فلو دخلت ذبابة غرفتها، تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها لتعود تلك الذبابة إلى النظام البيئي.
وقد حصل هذا أمام عيني مرة، فلقد كنا بالسيارة، وحدث أن دخلت نحلة وكنا قد أغلقنا النوافذ، فبقيت تطن وتدور وتدور، ففتحت والدتي نافذتها الجانبية، وساعدتها على الخروج بحركة من يديها، وخاطبتها قائلة:(لعلك تنقذينني من حر جهنم كما أنقذتك).
كنت الوحيدة من بين اخوتي التي تتسلل من مكانها لتفقد أمي، خصوصا إن كان الكرتون يضم قصة حزينة تدفعني بشدة بالاحساس بوالدتي، وكذا ان كان الكرتون مضحكا، فنستغرق في ضحكات متواصلة، أندم عليها أيضا، وأحس بتأنيب الضمير، فأذهب لتفقد والدتي.
كنت أرغب بمواساتها، ومشاركة أفكارها، وكان أملي ادخال السرور على قلبها، لكنني كنت أفشل في ذلك فشلا ذريعا، وينقلب الأمر إلى الضد من ذلك، فأسبب لها القلق والحزن.
كانت تستغرب مجيئي في غمرة انشغال اخوتي وانغماسهم، فتحاول معرفة السبب، فتأخذ في سؤالي، علها تفهم سبب سلوكي الغريب ذاك.
وكنت أنا لا أجد شيئا أدفعها به إلى البوح ومشاركتي ما يقض مضجعها ويسكن تفكيرها.
كانت تدفعني إلى الكلام، فأشاركها قصة الكرتون المحزنة تلك، وكان ذلك رغبة في جرها لكلام آخر، فكانت أسئلتي لها من قبيل( ماما لماذا هذا العالم سيء، لماذا هنالك فقد، وأيتام، وحروب، وفقر؟)
وعيوني تختزن دمعات توشك على الانفلات، وغصة في حلقي تحسها والدتي أثناء كلامي.
لكن والدتي لم تفهم يوما سبب ذلك السلوك، وكان ذلك يؤرقها ويحزنها أكثر، فلطالما سمعتها تردد لوالدي (طفلتنا هذه هشة جدا، ليست مثل بقية اخوتها، أنا خائفة عليها).
كبرنا وتفرق اخوتي ما بين عمل ودراسة، وأضحت والدتي أكثر وحدة عن ذي قبل، خصوصا مؤخرا مع أحداث الحراك، وانغماس والدي الكبير مع هاتفه خائضا حروبا وسجالات وجدالات لا يعرف أحد متى ستنتهي، وإن وضع هاتفه أدار الدفة إلى قناة الجزيرة وأشباهها.
كبرت أنا أيضا، ولا زلت كلما انغمست مع وسائل التواصل الاجتماعي، أشعر بعدها بتأنيب الضمير، ولا أرتاح إلا اذا وجدتها رفقة والدي يتجاذبان أطراف الحديث عن مستقبل الأيام، وذكريات الزمان.
اتركوا هذه الأجهزة قليلا، دونكم أمهاتكم، قبلوا أرجلهن، ودلكوا أقدامهن، فهناك تقبع رائحة الجنة.
#شموسة
حين كنا صغارا، نتحلق جميعنا حول التلفاز في الصالة الرئيسية، شاعرين بدفء أسري لاجتماعنا، ولقرب المدفأة من كل غرف البيت، والتي كانت تبعث بحرارة تعم كل أرجاء المنزل الصغير.
في حين كان والدي يقبع بغرفة مكتبه المظلمة إلا من ضوء خافت ينبع من مصباح صغير على مكتبه، عاكفا على تصحيح الأوراق، أو كتابة المذكرات التي غالبا ما كان يكورها بين يديه ويرمي بها في سلة قريبة، ليعيد كتابة أخرى.
أما والدتي فكانت تقبع في الرواق على هيدورة بجانب المدفأة، وكانت غالبا ما تضع لنا حبات الفول السوداني فوقها لتصبح مقرمشة، في حين كانت تقوم بتقليبها، ثم تعكف على حياكة كنزة أو شال صوفي لأحدنا.
كان مكانها استراتيجيا جدا، فهي ترى وتسمع كل حركاتنا وسكناتنا، وكذا حركات والدي فيشعرها ذلك ويشعرنا نحن أيضا بالقرب.
والدتي لم تحب التلفاز يوما، ولا بهارج الدنيا وزينتها، فكانت أغلب الأوقات وحيدة، مبتلاة بمرض التأمل والتفكير، تهرب من الوحدة والحزن الدفين إلى أعمال المنزل أو حياكة الملابس، وكان الدمع عندها عادة تبكي في فرح وفي أحزان.
والدتي شخص رقيق حساس جدا، لدرجة أنها تبكي دوما في قصصها الأيتام، وتحس بكبار السن وتذكرهم دوما، وتعطف على الصغار، وحتى الحيوانات والحشرات.
قلبها فياض بالرحمة والمحبة فلو دخلت ذبابة غرفتها، تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها لتعود تلك الذبابة إلى النظام البيئي.
وقد حصل هذا أمام عيني مرة، فلقد كنا بالسيارة، وحدث أن دخلت نحلة وكنا قد أغلقنا النوافذ، فبقيت تطن وتدور وتدور، ففتحت والدتي نافذتها الجانبية، وساعدتها على الخروج بحركة من يديها، وخاطبتها قائلة:(لعلك تنقذينني من حر جهنم كما أنقذتك).
كنت الوحيدة من بين اخوتي التي تتسلل من مكانها لتفقد أمي، خصوصا إن كان الكرتون يضم قصة حزينة تدفعني بشدة بالاحساس بوالدتي، وكذا ان كان الكرتون مضحكا، فنستغرق في ضحكات متواصلة، أندم عليها أيضا، وأحس بتأنيب الضمير، فأذهب لتفقد والدتي.
كنت أرغب بمواساتها، ومشاركة أفكارها، وكان أملي ادخال السرور على قلبها، لكنني كنت أفشل في ذلك فشلا ذريعا، وينقلب الأمر إلى الضد من ذلك، فأسبب لها القلق والحزن.
كانت تستغرب مجيئي في غمرة انشغال اخوتي وانغماسهم، فتحاول معرفة السبب، فتأخذ في سؤالي، علها تفهم سبب سلوكي الغريب ذاك.
وكنت أنا لا أجد شيئا أدفعها به إلى البوح ومشاركتي ما يقض مضجعها ويسكن تفكيرها.
كانت تدفعني إلى الكلام، فأشاركها قصة الكرتون المحزنة تلك، وكان ذلك رغبة في جرها لكلام آخر، فكانت أسئلتي لها من قبيل( ماما لماذا هذا العالم سيء، لماذا هنالك فقد، وأيتام، وحروب، وفقر؟)
وعيوني تختزن دمعات توشك على الانفلات، وغصة في حلقي تحسها والدتي أثناء كلامي.
لكن والدتي لم تفهم يوما سبب ذلك السلوك، وكان ذلك يؤرقها ويحزنها أكثر، فلطالما سمعتها تردد لوالدي (طفلتنا هذه هشة جدا، ليست مثل بقية اخوتها، أنا خائفة عليها).
كبرنا وتفرق اخوتي ما بين عمل ودراسة، وأضحت والدتي أكثر وحدة عن ذي قبل، خصوصا مؤخرا مع أحداث الحراك، وانغماس والدي الكبير مع هاتفه خائضا حروبا وسجالات وجدالات لا يعرف أحد متى ستنتهي، وإن وضع هاتفه أدار الدفة إلى قناة الجزيرة وأشباهها.
كبرت أنا أيضا، ولا زلت كلما انغمست مع وسائل التواصل الاجتماعي، أشعر بعدها بتأنيب الضمير، ولا أرتاح إلا اذا وجدتها رفقة والدي يتجاذبان أطراف الحديث عن مستقبل الأيام، وذكريات الزمان.
اتركوا هذه الأجهزة قليلا، دونكم أمهاتكم، قبلوا أرجلهن، ودلكوا أقدامهن، فهناك تقبع رائحة الجنة.
#شموسة