يحدث في بلد العميان:
عاد سالما من ايطاليا التي أنهكها الوباء، عاد وجثث الموتى لا تفارق مخيلته وتفكيره.
وصل إلى منزله، مكث مدة الحجر اللازمة، كان لا ينزع الكمامة حين ينزل إلى الشارع، وكذلك القفازات، يترك دائما مسافة الأمان اللازمة بينه وبين الناس، كان لا يكف عن توعية الناس، وسرد قصص الوباء، لكن لا أحد كان يأخذ الأمر على محمل الجد.
ثم ماذا حدث؟
اعتبره الناس حاملا للفيروس، وأشاعوا ذلك بين الناس، ورفضوا الاقتراب من بقالة أخيه، قاطعها الجميع، وكسدت بضائعه، ولم يجد ما يقوت به عياله.
أما أخوه الآخر فكان يبيع الخضروات، وتمت مقاطعته هو الآخر، تاركين أولاده يتضورون جوعا.
وكل ذلك بسبب المثقف الواعي العائد من ايطاليا.
كانت امرأة مثقفة وواعية، موسوسة نظافة، وتحرص على أخذ التدابير اللازمة، تتابع مختلف النشرات والأخبار لدرجة جعلتها مهووسة وخائفة على زوجها وأطفالها، تلقى زوجها اتصالا بأن عائلة أخيه الأكبر كلها تعاني المرض، كانوا مصابين بالكورونا، ويخفون الأمر، قالوا له أن الجدة تحتضر ويلزمه الحضور فورا.
لم يجد بدا من الذهاب لإلقاء النظرة الأخيرة على والدته المسنة، ارتدت زوجته الكمامة والقفازات، ورفضت الضيافة المقدمة بأدب، فلم تأكل أو تشرب شيئا، وحين غادرت المكان رفقة زوجها، أمر صاحب الدار أن ينظف مكانها جيدا، ثم أردف قائلا:( لقد رفضت نزع الكمامة، هذا يعني أنها مصابة بالفيروس).
أصبح الصحيح المعافى متهما، والمريض الحامل للفيروس بريئا غير متهم.
قال "عادل" في منشور على الفيس بوك أنه في حال إصابته بالفيروس فلن يخفي أمر إصابته. فهذا أمر عادي، والمرض ليس فضيحة.
- لماذا يخفي الجميع خبر الإصابة؟ هل هذا هو الوعي؟!(تساءل قائلا).
بعد أيام أصيب بالفيروس، واحتاج سيارة تقله إلى مركز التحاليل، طلب من ابنته أن تهاتف صديقه(فلان) ليقلهم إلى ذلك المكان.
قامت ابنته بالمطلوب، هاتفت العم (فلان)، وأخبرته حقيقة المرض، فاعتذر بأدب وتحجج بشتى الأمور.
هاتفت أصدقاءه واحدا بعد الآخر، رفض الجميع أن يقله.
هنا توجه "عادل" لصفحته على الفيس بوك، وكتب منشورا يقول:( تبا للأطباء، لقد قالوا أنني أصبحت مصابا بالفيروس، وحين أجريت التحليل النهائي، وجدوه سالبا، وقالوا أنها انفلونزا موسمية فقط، فالحمد لله من قبل ومن بعد).
يقول أحدهم: كان ممرضا، يناديه الناس من أجل الحقن، فالمستشفى لا يستقبلهم هناك بسبب الوباء، اشتكى لي أن الناس الذين يتصلون به يوميا مصابون بالفيروس، لكنهم لا يخبرونه الحقيقة، وأنهم إلى ذلك لا يرتدون الكمامة، ولا يتخذون الإجراءات اللازمة، وأن إحداهن ظلت تسعل أمامه.
سأله الفتى إن كان يرفض أن يتعامل مع هؤلاء المرضى، فأجابه بالنفي، معتبرا أن ما يقوم به عمل انساني، لكنه ينشد الحقيقة فقط، ليحتاط لنفسه.
في المساء هاتفه الفتى راجيا منه أن يزور والدته المسنة المصابة بالفيروس، من أجل الحقن، أجابه بأنه قادم، وأنه سيكون أمام بيته خلال عشرة دقائق.
مرت عشر دقائق، عشرون، ثلاثون، ساعة كاملة من الانتظار
هاتفه ثانية(الهاتف مغلق أو خارج مجال التغطية).
من الصعب العيش بمثالية وسط الحمقى والجهال، ومن يفعل ذلك لا شك سيغدو أحمقا بنظرهم، وسينتظره نفس المصير الذي حدث للمبصر في بلد العميان.
#خواطر_زمن_الوباء